وُلدت مصابةً بمرض غريب يسميه الأطباء “المرض البلوري” الذي يجعل المصاب به أشبه بلوح زجاجي عرضةً للتهشم لدى أدنى اصطدام، ورغم ظروفها الصحية الصعبة ومعاناتها الشديدة استطاعت التحرر من سجن الجسد ونظرة بعض الناس القاصرة إلى المعاق والانطلاق إلى فضاءات الفعالية واثبات الذات عبر شخصيتها المتفائلة وطموحها غير المحدود وقدرتها على التحدي ورغبتها في العطاء، ولم تُثنها الإعاقة عن إبراز امكاناتها ومواهبها في أشغال الصرما والتطريز التي تحولت بين يديها إلى لوحات فنية تنطق بالإبداع والجمال اصبح عملها في هذا المجال من مجرد هواية ورغبة في ملء الفراغ إلى وسيلة لكسب لقمة العيش لها ولعائلتها.
إنها الشابة السورية أسمى زهرة التي تنتمي إلى أسرة تناوب أفرادها على الإصابة بالمرض البلوري الذي يجعل المصاب به غير قادر على تحريك قدميه وتصبح حركة يديه محدودة مع ميلان الجسد وهو داء وراثي في بنية العظام كما جاء في بعض التقارير الطبية وهذا ما ألقى بالعبء الأكبر على أسمى بعد وفاة والدها ووالدتها فراحت تسعى لتأمين رزق عائلتها رغم وضعها الصحي الصعب.
طفولتك كيف كانت؟
- ولدت في كنف أسرة فقيرة الحال فوالدي رحمه الله كان عامل بناء قضى عمره في رعايتنا والاهتمام بنا ووالدتنا رحمها الله كانت تعمل في حياكة الملابس وبيعها لتمد أسرتنا البائسة بدخل إضافي، ولدى ولادتي شاء القدر أن أكون مصابة بمرض وراثي غريب يسمى “المرض البلوري” الذي ينتج عنه تهشُّم كلي للعظام ويبدو المصاب به كطفل صغير مهما تقدم به العمر، وواجهت الكثير من المصاعب والمعاناة اليومية من ناحية الألم الذي لم يكن يفارقني من جرَّاء الكسور التي كنت أتعرض لها ولا أزال، فأصحاب هذا المرض الغريب معرضون دائماً للكسور والتهشم في العظم كما الزجاج تماماً، وكان الوالدان اللذان لم يعانيا من أي مرض يأخذاني إلى الأطباء والمختصين في سوريا وخارجها وكان الجواب يأتي لا فائدة من العلاج ولا أمل في الشفاء وهكذا اقتنعت ألا دواء لي سوى القناعة والرضا والصبر وبعد ذلك فقدت والدتي، ولم أتجاوز الثانية عشرة من عمري وشكل هذا الأمر صدمة نفسية كبيرة لأنها كانت تمثل كل شيء في حياتي وكنت أعتبرها سندي الوحيد.
ومنذ طفولتي نشأت على مواجهة الألم والمعاناة الشديدة التي كانت تخلفها حالتي وإصاباتي المتكررة، وبعد رحيل والدتي بسنوات فقدت والدي الذي كان الحصن الأخير في حياتي وحياة أسرتي، وعانيت على المستوى الشخصي الكثير من نظرات الإشفاق والعطف والسخرية من بعض الأشخاص حولي ولكن ذلك لم يولد في داخلي إلا رغبة التحدي واثبات الذات.
وماذا عن الصعوبات الأخرى التي تواجهينها؟
- كنت أسير على مقعدي المتحرك وكأنني أحمل بين ضلوعي بللوراً أداريه كثيراً خوفاً من الكسر والتحطم وكأنني نافذة أو باب زجاجي متحفز يقظ من أي إصابة خارجية تكون نهايتها تهشم عظم أو ضلع أو مرفق، كانت هذه الحالة ترافقني كل شهر أو شهرين مما يضطرني إلى ملازمة فراش المرض حتى أتماثل للشفاء لأعود للإصابة ثانية، ومما زاد في ألمي ومعاناتي أن ثلاثة من أشقائي أصيبوا بهذا المرض مع اختلاف في مظاهر الإصابة وهم “بدر الدين” و”طاهر” اللذين أصيبا بتشوه مع ضمور وقصر في الطرف السفلي الأيسر وكسر في منتصف الفخذ الأيمن و”خيرات” المصابة بتشوه في العمود الفقري مع تحدب في الصدر وضمور في الأطراف السفلية ونقص النمو وجميعها ناتجة عن مرض وراثي ورغم ذلك عشنا والحمد لله حياة سعيدة وسط أسرة متفاهمة كادحة أكثر أبنائها مصابون بمرض غريب ونادر.
وكيف استطعت تجاوز واقعك وإعاقتك؟
- بالإيمان بالله والإرادة والتصميم وهي مفردات ضرورية لتحقيق الذات إلى جانب تشجيع أهلي وأصدقائي وبعض المقربين، حيث عملت في مجال الصرما وأشغال الشك والتطريز منذ كنت في السابعة من عمري وكنت أعمل تواصي وأطوّر من عملي من خلال ابتكار كل ما هو جديد ومميز في هذا المجال وفكرت في الالتحاق بعمل وظيفي واستفدت من المزايا المتاحة لتشغيل المعاقين، وتقدمت إلى العديد من دوائر الدولة وكانت طلباتي تواجه بالرفض دائماً لأنني معاقة ولكنني لم أشعر باليأس أو القنوط وهذا الأمر ترك في داخلي إحساساً بالتحدي واثبات الوجود وأخيراً تم توظيفي في المركز الثقافي بحمص بوظيفة مشرفة على قاعة المطالعة الحرة للطلاب، ولم أكتف بالحصول على الوظيفة بل طمحت باستمرار لتطوير حياتي في جميع المجالات ومنها هوايتي في التطريز التي عزَّزتها بالاشتراك في العديد من المعارض الرسمية المحلية والعربية والدولية ومنها المعارض التي يقيمها اتحاد الحرفيين والاتحاد النسائي العام في سوريا ومعرض يوم المرأة العربية الذي أقيم تحت رعاية السيدة أسماء الأسد، وغيرها من المعارض.
حدثينا عن عملك في مجال التطريز؟
- تتنوع الأعمال التي أقوم بها في التطريز ما بين شغل الصرما والتطريز اليدوي وشك الخرز وبدلات الشك وقد تعلمت هذه الحرفة من والدتي وأتقنت بعد ذلك أصول الصرما لدى معلمة خاصة ومن هنا بدأت أطور ذاتي ولاسيما أنني أحببت هذه الأشغال اليدوية وبدأت أتقنها وأتفنن فيها بشكل ملحوظ وبشهادة الآخرين وذلك من خلال الإقبال على هذه الأعمال وشرائها ورغبة الزبائن فيها من خلال التواصي الخاصة التي كانت تأتيني بين الفينة والأخرى.
تبدين متفائلة جداً رغم ما تعانينه، ما مبعث هذا التفاؤل؟
- الامتثال لمشيئة الله والتسليم بقضائه كان ولا يزال يمثل بالنسبة لي البوصلة التي توجه حياتي وهذا الأمر كان له الكثير من التأثير الإيجابي في حياتي اليومية، حيث نشأت على كره نظرات الشفقة من قبل البعض ورفضها كلياً، فالمعاق الحقيقي من وجهة نظري هو من يملك عقلاً ولا يستخدمه في شيء نافع لنفسه ولمجتمعه ووطنه، وأنا وإن كنت معاقة جسديا فإنني سليمة العقل والنفس والحمد لله، والجسد هو وسيلة للحركة والتنقل لا أكثر أما العقل فهو الذي يقود الإنسان إلى النجاح وتحقيق الذات.
مواقع النشر (المفضلة)