النمر يقبل يد خادمه

اكتب هنا مراراً، مع الاعتذار، عن لارا، السيدة السيرلانكية، التي تساعد زوجتي في اعباء البيت.

عندما وقع الاعتداء على لبنان في تموز، كنا في فرنسا. وكانت لارا تأتي الى المنزل كل يوم، وتعمل كأننا لم نغادر. وعندما عدنا الى بيروت، اكتشفت ان لارا تحفظني غيباً من دون اي سهو، ملأت المطبخ بالتفاح الاخضر و«الكزبرة» واعدت العدس وعلّقت في متناولي القمصان التي افضل، ورشّت الاقلام في كل مكان، وصفت ورق الكتابة الى جانب كل المقاعد.

كم ابهجني هذا الاستقبال. فان حواري مع «لارا» لم يزد مرة على «هالو لارا»، او على شكرها عندما تقدم قميصاً مكوياً. ولكن هذه السيدة البوذية التي تحضر طعامها معها كل يوم، تحاول ان تحفظنا غيباً. تعرف انني اشعر بالخجل منها. وتتسامح مع فوضى ابنتي حبيبتي وهي مستعجلة الى الجامعة. وترفض ان تنادي زوجتي باسمها الاول برغم كل اصرارها الصادق. ولا يهم ماذا انسى في جيوبي، فلا شيء يعني شيئاً عند لارا. لا بعد يوم ولا بعد شهر ولا بعد حرب. وعندما اعطيها القليل مما رأته في جيبي، تشعرني بأنني اسرفت.

تدخل لارا ومحمد، الناطور المصري، الى منزلنا، في حضورنا وفي غيابنا. وفي الحرب. وفي الاجازات. ونشعر ان كل ما نملك هو في حراستهما. وعندما نتحدث عن مخاوفنا الحقيقية في الحياة، زوجتي وانا، ندعو للارا ومحمد بالصحة والعافية. ولارا متقدمة قليلاً في السن. ونخشى ذلك اليوم قد تقول لنا فيه:

مستر، انا يروح سيريلانكا.

كان جورج كليمانصو، مارشال فرنسا ورئيس وزرائها وقائد حروبها. ولذلك سمي النمر. ولما دنت ساعته ودخل الاحتضار جلست حول سريره ابنته وابناها، كما جلس ابنه. وعلى باب الغرفة وقف خادماه العجوزان، البير وبرايان. وفي لحظة استفاقة، تمتم النمر.

البير!

فاقترب البير من سيده. فما كان من النمر الا ان امسك يد البير بقوة عجيبة وقبّلها.

ثم غاب. وعندما فاق مجدداً، اشار الى برايان، السائق، فتقدم فأخذ يده ومسحها بشاربيه الابيضين المتدليين. ثم اسلم الروح. كان الجنرال فؤاد شهاب، رئيس لبنان الاكثر نزاهة وكرامة، بلا ابناء. وكان يقسم راتبه الشهري، كما ذكرت غير مرة، الى ثلاثة اقسام: الثلث الاول، لمصروفه، هو وزوجته. والثاني لمرافقه، شكيب وتعليم اولاده. والثالث للفقراء. وكان معارضه الاول وخصمه العنيد حتى الموت، العميد ريمون اده، يعيش منفياً في باريس، فيما يدير منزله الابوي في بيروت، ثمانية من الشغيلة. وطوال ربع قرن ظل يرسل اليهم رواتبهم. وعندما توفي ترك لهم في وصيته شيئاً من ماله. وانا اعتذر عن تكرار هذه الحكايات لقارئ ذي ذاكرة حيوية. ولكن كلما رأيت لارا في المنزل او محمد يدلنا الى نقص ما، اتذكر ان بعض افراد العائلة ليسوا احياناً اقرباء.

الكاتب : سمير عطاالله