ساحقق حلمه

سأحقق حلمه

إنه مجاهدٌ في سبيل عائلته، من مجاهدي تلك الحرب المجنونة على لبنان، وصل إلى المستشفى الحكومي جثة مشوهة، إنتشلت من سيارة مليئة بربطاتٍ من الخبز بعد أن إستهدفته الطائرات الصهيونية بصاروخٍ أصابه في رأسه.
إنه كاظم، من بلدة قانا الجليل، قانا الشهيدة الثانية، لم يبق معه سوى قطعة من إخراج قيد ملوثة بدمائه، مدون عليها إسمه كاظم ومواليده، قطعة من إخراج قيد سحبت من جيب جثة مشوهة.
كاظم، أستاذ مادة التاريخ المليء بالحروب، والظلم والمجازر، والإستسلام. له زوجة أحبها كما أحب تاريخ بلاده المليء بالعزة والعنفوان والمقاومة، ثلاثة أبناء، بلال ومنال ورضوان.
هذه هي عائلة كاظم التي أحبها وجاهد في سبيلها كما أمره ربه.
مع بدء العدوان الصهيوني البربري إختبىء كاظم وعائلته في منزل شقيقه كونه محمي أكثر من منزله، وبقوا عشرين يوماً في غرفة واحدة أربعة عشر شخصاً حتى انقطعت عنهم المياه، وصعب عليهم تأمين الطعام. ليلاً لا يتجرأون على إنارة شمعة، أطفال يبكون هلعاً، ورجالاً لا يعرفون ماذا يفعلون معهم وسط هذه الصواريخ المجنونة التي تنزل عليهم كحبات لمطر، كل ذلك ولا يملكون سيارة يغادرون بها ذلك الجحيم.
كان كاظم يخرج صباح كل يوم تحت القصف إلى وسط القرية يحضر خبزاً وطعاماً لأسرته، ويعود مقطوع النفس لإضطراره للجوء إلى الطرق الزراعية والأحراش والإختباء من وطاويط الصهاينة ونيرانهم خوفاً من إستهدافه.
ذات يوم، عاد من رحلته اليومية المرعبة، وأقسم لإبنته منال برحمة أمه أنه يشعر بأنه سيستشهد.
بعد أن قصفت المنازل المحيطة بمنزل العائلتين وأصبح خوفهم أكبر، وهلع الأطفال لا يحتمل خرجوا في العراء دون أن يحملوا معهم شيئاً مما يحتاجونه، حملت أم بلال إبنتها منال، وحمل بلال شقيقه رضوان، وساروا بين البيوت المحترقة والمقاتلات الصهيونية الحاقدة فوق رؤوسهم. وبعد جهد تمكنوا من تأمين سيارة تنقلهم إلى مدينة صيدا.
الجميع خائفون يتمتمون ويقرأون آياتٍ من القرآن الكريم، وأم بلال تبكي ودموعها لا تجف خوفاً على زوجها الذي بقي في قانا مع أبيه العجوز، لعلهم يتمكنون من تأمين سيارة أخرى تنقلهم لاحقاً، حيث كانت الأولوية في السيارة الأولى للأطفال والنساء. تقول أم بلال:«قلبي حدثني أني لن أراه ثانية».
بوصولهم إلى صيدا انقطعت سبل الإتصال بين كاظم وعائلته، وبقي في قانا إسبوعاً بعد خروجهم حتى تمكن من الوصول إلى صيدا. ذهب إلى مركز النازحين في البلدية يسأل عن أسرته، في المدارس، لم يجدهم، أصبح يبكي ويطلب أي خبر عنهم، أيام ثلاثة دون أن يشفي قلبه أي خبر عن أطفاله وشريكة عمره أم بلال.
قطع الأمل من الوصول إليهم، وبدأت الأفكار الشيطانية تتلاعب بأعصابه حيناً يقول هل أصابهم مكروه على الطريق بين قانا وصيدا، وحيناً آخر يعلل نفسه بأنه من الممكن أن يكونا استكملوا طريقهم إلى بيروت. لكن بعد طول إنتظار قرر العودة إلى قانا وحمل معه ما تيسر له من الخبز والطعام لمن بقي في البلدة. لكن مشوار عمره إنتهى قبل أن يصل قانا الشهيدة، حين اصطادته طائرات الموت الصهيوني.
اليوم تجلس أم بلال في منزلها في قانا وسط ما بقي لها من كاظم حبيبها نصف إخراج القيد الملون بدمائه، وكتاب دعاء في جيبه، ورسالة وجدتها في غرفته كتبها لها بحبر وحدته حين خاطبها:«ملاكي وحياتي، حبيبتي وقرة عيني، ها أنا راقدٌ والليل بلغ ثلثه الأخير أعد نجوم السماء وأتفحصها جيداً عليَّ أراك بينها...»...
رضوان الإبن الأصغر يوم عاد إلى قريته ووجد أبناء عمه يتحلقون حول أبيهم وينادونه. قال لوالدته:«نيالهم عندهم أب...».
أما منال التي ما زالت ترى أباها في المنام يجلس في ركنه المعتاد في المنزل ومن حوله عصافير بيضاء، تقول لوالدتها:«أبي سيعود حاملاً معه الهدايا...». وتخاطب أباها:« سأحقق حلمك وأصبح مدرسة مثلك».
بلال حامل الهموم مبكراً خرج في يومه الأول في القرية يبحث عن عمل أي عمل كان يقوى به على تحمل مسؤولياته. عاد مساءً يحمل معه لأم بلال واخوته الطعام وبعض الفاكهة وعلبة سجائر لأمه.
بلال الذي ما زال يرفض أن يغير معالم سرير والده، وفي كل ليلة يدفن رأسه بين طيات فراشه ليشتم رائحته التي ما زالت تسكن فيها».