..().. النعمان بن مقرن ..()..
وضع القرآن الكريم منهجا قويما للحكم يقوم على قواعد كثيرة منها: العدل والمساواة والحرية والشورى. وجاءت في خصوص مبدأ الشورى آيتان كريمتان غاية في الإحكام والإعجاز والإحاطة:
أما الآية الأولى فهي وحدها منهج متكامل في النبوة والحكم إذ يقول الله عز وجل مخاطبا رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم: “فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ” (آل عمران: 159).
وأما الآية الثانية فهي منهاج لسلوك عباد الرحمن الصالحين المتبعين لهديه الماضين على سنته حيث يقول الله سبحانه وتعالى: “وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ” (الشورى: 38) ويكفي في فضل الشورى وفضل العاملين بها والحريصين عليها أن تخصص سورة من سور القرآن الكريم باسمها.
إعمال مبدأ الشورى
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصا على إعمال مبدأ الشورى وخصوصا في الأمور المهمة، ولم يكن يقتصر في الأخذ بالشورى على كبار صحابته بل كان ثمة مجال للشباب في هذه الشورى، ومن ذلك على سبيل المثال سلمان الفارسي رضي الله عنه الذي أشار على النبي صلى الله عليه وسلم بحفر خندق حول المدينة. وكان حفر هذا الخندق سببا من أسباب صمود المدينة وجيش المسلمين في مواجهة جيوش المشركين (الأحزاب) الذين فرق الله عز وجل شملهم وشتت جمعهم وانسحبوا دون حرب.
كذلك لم يستنكف الرسول صلى الله عليه وسلم أن يطلب المشورة من زوجاته أو يسمع النصيحة ويعمل بها إذا استوثق من صوابها، ومن ذلك مشورة أم المؤمنين أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم التي أشارت عليه أن يحل وينحر في الحديبية إثر الصلح الذي أبرم بينه وبين مشركي مكة والذي اتفق فيه على إرجاء دخوله مكة للعام القادم. وكان جمع من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم قد أحزنهم قبول رسول الله بشروط المشركين. غير انه عندما نفذ النبي صلى الله عليه وسلم نصيحة أم سلمة ما لبث هؤلاء حتى فعلوا مثلما فعل النبي وزال ما في نفوسهم من حزن.
على خطى الرسول
وسار الخلفاء الراشدون على هدي النبي صلى الله عليه وسلم في العمل بمبدأ الشورى وخصوصا في الأمور التي يتعلق بها مستقبل الأمة وحماية الدين والتمكين لكلمة التوحيد. وبصفة أخص عندما يتعلق الأمر بالجهاد والتضحية بالنفس والمال. وقد تبدى ذلك في عشرات المواقف واتخاذ العشرات من القرارات ذات التأثير في مسيرة الإسلام وكيان دولته.
ومن ذلك ما حدث إبان معركة نهاوند في بلاد فارس. فقد كانت الحرب سجالا بين قوة الإسلام البازغة وبين الإمبراطورية الفارسية التي أذلت العرب طويلا، ونما إلى علم الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن الفرس يحشدون قواتهم في منطقة نهاوند. وأنه قد اجتمع لهم نحو مائة وخمسين ألف فارس ومقاتل بعدتهم وعتادهم، فجمع عمر رضي الله عنه الناس واستشارهم وقال لهم:
“هذا يوم له ما بعده وقد هممت أن أسير فيمن قبلي ومن قدرت عليه فأنزل منزلا وسطا بين هذين المصرين (أي البلدين) ثم استنفرهم وأكون لهم رداء حتى يفتح الله عليهم ويقضي ما أحب”.
وانتظر عمر أن يسمع كلام إخوانه فقام طلحة بن عبيد الله أحد المبشرين بالجنة وقال:
“يا أمير المؤمنين قد أحكمتك الأمور واحتنكتك التجارب وأنت وشأنك ورأيك. لا نكل عليك هذا الأمر فمرنا نطع، وادعنا نجب”.
وقام عثمان بن عفان ذو النورين وقال: “أرى يا أمير المؤمنين أن تكتب إلى أهل الشام فيسيروا من شامهم، وإلى أهل اليمن فيسيروا من يمنهم، ثم تسير أنت بأهل الحرمين إلى الكوفة والبصرة فتلقى جمع المشركين بجمع المسلمين فإنك إن سرت قل عندك ما قد تكاثر من عدد القوم وكنت أعز عزا وأكثر يا أمير المؤمنين. إن هذا يوم له ما بعده من الأيام فاشهده برأيك وأعوانك ولا تغب عنه”.
وقام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وقال: “أما بعد يا أمير المؤمنين فإنك إن أشخصت أهل الشام من شامهم سارت الروم إلى ذراريهم، وإن أشخصت أهل اليمن من يمنهم سارت الحبشة إلى ذراريهم، وانك إن أشخصت من هذه الأرض انتقضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها حتى يكون ما تدع وراءك أهم إليك مما بين يديك من العورات”.
ومضى علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: “أقرر هؤلاء في أمصارهم، واكتب إلى أهل البصرة فليتفرقوا ثلاث فرق: فرقة في حرمهم وذراريهم. وفرقة من أهل عهدهم حتى لا ينتقضوا. ولتسر فرقة إلى إخوانهم في الكوفة مددا لهم إن الأعاجم إن ينظروا إليك غدا قالوا هذا أمير المؤمنين أمير العرب وأصلها فكان ذلك أشد طلبهم عليك”.
فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “وهذا هو الرأي كنت أحب أن أتابع عليه”.
وما إن استقر الخليفة على الرأي حتى كان عليه أن يجهز الجيش وأن يختار قائده الذي كان يجب أن يتصف بالقوة والصلابة والحكمة والحنكة الممزوجة بالرأفة والسماحة وتقوى الله.
“أما جابياً فلا”
ووجد عمر هذه الصفات كلها في هذا الرجل: النعمان بن مقرن بن عائد المزني من (مزينة) أبو عمرو، فهو من الأمراء القادة الشجعان الذين لا يهابون الموت ويطلبون الشهادة. وكان معه لواء مزينة يوم فتح مكة. وقد سكن البصرة ثم تحول عنها إلى الكوفة، ووجهه سعد بن أبي وقاص (بأمر عمر) إلى محاربة الهرمزان (قائد الفرس) فزحف بجيش الكوفة إلى الأهواز وهزم الهرمزان وتقدم إلى تستر فشهد وقائعها وعاد إلى المدينة بشيرا بفتح القادسية (خير الدين الزركلي: الاعلام 8/42).
هذا هو الرجل الذي كان على عمر بن الخطاب أن يختاره للمهمة الجليلة فكيف اختاره عمر لهذه المهمة. يقول البلاذري في فتوح البلدان ص 311: “دخل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب المسجد بالمدينة فرأى النعمان بن مقرن فقعد إلى جنبه فلما قضى صلاته قال: أما إني سأستعملك
فقال النعمان: أما جابياً فلا ولكن غازياً قال (أي عمر): فأنت غاز وكانت الأخبار قد وصلت باجتماع أهل أصبهان وهمدان والري وأذربيجان ونهاوند، وأقلق ذلك عمر فولاه قتالهم، وخرج النعمان إلى الكوفة فتجهز، وغزا أصبهان ففتحها وهاجم نهاوند فاستشهد فيها (الأعلام 8/42).
وكانت مع النعمان في قيادة الجيش نخبة من كبار الصحابة منهم: نعيم بن مقرن وحذيفة بن اليمان ومعقل بن يسار والقعقاع بن عمرو ومجاشع بن مسعود وكان كل من هؤلاء يقود كتيبة من الجند.
الصلاة قبل المواجهة
لما وصل الجيش إلى ميدان المعركة كان أول ما طلبه النعمان بن مقرن من قادته وجنوده هو الوضوء لكي يقيموا الصلاة قبل الالتحام مع جنود العدو. وبعد الصلاة ارتفعت أصواتهم بالدعاء إلى الله عز وجل وطلب منهم النعمان أن يؤمنوا وراءه وقال: “أيها الناس إني داع فأمّنوا”.
ثم دعا ربه عز وجل فقال وهو متوجه ببصره وكفيه إلى السماء: “اللهم إني أسألك أن تقر عيني اليوم بفتح يكون فيه عز الإسلام واقبضني شهيدا”.
فأمن القادة والجند ثم رجع النعمان فكبر ثلاثا والتحموا بالعدو في قتال ضارٍ ذي بأس شديد وكلهم يطمع في نصر مؤزر قريب أو في شهادة تقود إلى النصر فلما أقر الله عز وجل عين النعمان ببشائر النصر منّ عليه بالشهادة.
يصف معقل بن يسار استشهاد النعمان بن مقرن فيقول: أتيت النعمان وهو صريع ومعي إداوة فيها ماء. فغسلت عن وجهه التراب فقال: ما فعل الناس؟ فقلت: فتح الله عليهم، قال: الحمد الله، ثم فاضت روحه.
أما كيف استقبل عمر بن الخطاب نبأ استشهاد النعمان بن مقرن فيقول البلاذري في كتابه فتوح البلدان ص 311: “لما بلغ عمر مقتله دخل المسجد ونعاه إلى الناس على المنبر ووضع يده على رأسه يبكي”.
وهكذا طلب النعمان مثل الكثيرين غيره من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينال الشهادة فاستجاب الله عز وجل له فأناله إياها وسعى مثل الكثيرين غيره من الصحابة لنصرة الدين ورفع راية التوحيد فحقق الله لهم ما سعوا إليه رضي الله عنهم أجمعين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه إلى يوم الدين.
