كرم الله الإنسان، فخلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وسخر له ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه، واستخلفه في الأرض، ومنحه من القوى والمواهب ما مكنه من السيادة في الأرض على سائر الكائنات الحية. وإضافة إلى ذلك، فقد أنزل الله في شرائعه من الوصايا ما يضمن له الحقوق التي تمكنه من استعمار الأرض على أكمل وجه، فضمن له حق الحياة، وحق التملك، وحق صيانة العرض، وحق الحرية، وحق المساواة، وحق التعليم، وغيرها من الحقوق التي تقوم على أساسها حياة الأفراد، وتستقيم في ظلها النظم الاجتماعية.

ومن أقدس هذه الحقوق في الوحي الإلهي حق الحياة، إذ لم تحل شريعة من الشرائع انتهاك حرمة هذا الحق، ولا استباحة حِماه، بل جعلت الشرائع عقوبة من يعتدي على النفس أن يُقْتَص منه بمثل ما اعتدى به، واعتبرت هذا من العدالة التي يجب أن يلتزم الناس بها، ويحرصوا على تطبيقها في الحياة، إذ لما كانت الجريمة هي اعتداء على النفس، فالعدالة تقتضي أن يؤخذ الجاني بمثل فعله، فليس من المعقول أن يفقد أب ولده، ويرى قاتله يروح ويغدو بين الناس، وقد حُرِم هو من رؤية ولده، كما أنه ليس من المعقول أن يفقأ رجل عين أخيه، ويرى مفقوء العين المعتدى عليه الجاني يسير بين الناس، دون أن يأخذ عقابه.

ولكن القصاص عقوبة مغلظة، وهي مؤلمة أشد الألم، وتسبب العجز بين الناس!

لا وجه لهذا الاعتراض؛ فالجريمة التي اقترفها الجاني غليظة أيضاً، أفلا يعاقب المجرم غليظ القلب بما يساوي جريمته؟ فليس من المعقول أن تفكر في الرحمة بالجاني، ولا تفكر في ألم المجني عليه، أو وليه، فإن في ذلك قلباً لأوضاع المنطق العقلي السليم. وما أحسن قول النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المقام: “من لا يرحم لا يُرْحَم”، فالرحمة في غير موضعها ظلم بين، بل إنها القسوة ذاتها، وتسمية ذلك من الرحمة خطأ شائع، وكذلك تهدف العقوبة إلى زجر الجاني وغيره عن ارتكاب مثل هذا العمل، فإن حصل الزجر، امتنعت الجريمة، وبالتالي يختفي العقاب، ويعيش الناس في أمن وأمان، وقد بين الله هذا الجانب في قوله تعالى: “ولكم في القصاص حياة”.

ولهذا حُرِّمَ القتل في الشرائع كلها، سواء كانت بشرية، أم إلهية، ذلك أنه منذ أن تكونت الجماعات في الحياة الإنسانية، وظهر فيها تعارض الرغبات والشهوات، أجمع الناس على اعتبار القتل من أكبر الجرائم، لأنه يسلب المجني عليه حياته بدون حق، ويترتب عليه تيتيم الأطفال، وترميل النساء، وحرمان أهله وذويه منه. وكذلك تقرر بينهم أن من يعتدي على آخر بالقتل، فإنما يتحدى المجتمع كله، لأن عمله يتسبب في زعزعة الاستقرار في المجتمع، فتفقد الحياة هدوءها ونعيمها، ولهذا لا توجد في تاريخ البشرية جماعة أغمضت عينها عن هذه الجريمة، فلم تغضب لها، ولم تشرع من القوانين ما يحول دون ظهورها في حياتها.

ويحدثنا القرآن الكريم عن أول حادثة قتل وقعت على الأرض، فيصور لنا أن القاتل والمقتول كانا يعتبران القتل جريمة آثمة تستوجب غضب الله، والدخول مع الظالمين في الجحيم، وأن القاتل كان في نزاع مع نفسه عند الإقدام على جريمته، وظل هذا الصراع بين الإقدام والإحجام متأججاً داخله حتى طوعت له نفسه قتل أخيه، وعند إتمام الجريمة استيقظ ضميره، فندم على ما فعل، يقول تعالى: “واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين. لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين. إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين. فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين” وما ذاك إلا لأن الفطرة الإنسانية تستنكر هذا العمل وتستقبحه، ولا يقدم عليه إنسان إلا في حالة الضعف، وعدم القدرة على سيطرته على سلوكه.

وقد عرضت التوراة عدداً من صور القتل، مع بيان ما يستوجب منها توقيع القصاص على القاتل، وما لا يستوجب، مع التأكيد على أن جميع صور القتل من أفظع الجرائم، وأن القاتل يرتكب أكبر الذنوب، لأنه ارتكب معصية تحتل رأس قائمة المحرمات، ومن بين ما ورد فيها من نصوص عن القتل ما يلي: “من ضرب إنساناً فمات، فليقتل قتلا، فإن لم يتعمد قتله، بأن أوقعه الله في يده فسأجعل له موضعاً يهرب إليه. وإذا بغى رجل على آخر فقتله اغتيالا، فمن قدام مذبحي تأخذه ليقتل، ومن ضرب أباه وأمه يقتل قتلا، وإذا تخاصم رجلان فضرب أحدهما الآخر بحجر، أو بلكمة ولم يقتل، بل سقط في الفراش، فإن قام وتمشى خارجاً على عكازه يكون الضارب بريئاً، إلا أن يعوض عطلته، وينفق على شفائه، وإن حصلت أذية تعطي نفساً بنفس، وعيناً بعين، وسناً بسن، ويداً بيد، ورجلاً برجل، وكياً بكي، وجرحاً بجرح، ورضاً برض”.