الست
كعادته رامي في نهاية العام الدراسي، ينتقل مع عائلته الصغيرة المؤلفة من والدته وشقيقته إلى القرية لقضاء فصل الصيف بين أزقتها القديمة، وحقولها الخضراء، وجداولها التي تلطف الأجواء برذاذ مياهها العذبة. أما والده يبقى في المدينة للعمل ويزورهم في نهاية الإسبوع.
رامي، كأطفال قريته ينهض باكراً ليقطف النهار من مشرقه ولا يعود إلا بعد أن يدركه الظلام، ليغذي روحه بإكتساب أطول وقت ممكن من عطلته الصيفية لتكون ذخيرته لعامٍ دراسي مقبل.
أبناء المدينة الغازين للقرية للإستمتاع بهدوئها ومناخها يؤلفون مجموعات صغيرة كلٍ منهم حسب بيئته وجيرانه وأقربائه، ويتنقلون يوماً في سهولها البعيدة مع الرعاة، وآخر في حقول الكرمة، ويوماً على ضفاف ينابيعها.
كل هذا ما ألفه رامي وإعتاد عليه، وحقق له أحلام الطفولة. إلا سرَّ تلك القرية وأهلها التي رافقه في مراحله العمرية، ولم يدرك مغزاه حتى سن الشباب. أينما ذهب في القرية يسمع هذا منزل "الست"، هذا كرم "الست"، هذا جبل "الست"، هذا.... هذا....
يسأل رامي نفسه؛ من "الست"؟ لماذا كل ذلك للست؟ وكان الجواب دائماً أنها صاحبة الأرض ويوماً كانت كل القرية ملكاً لوالدها!!!
وهذا ما كان يجعل السؤال ذاته يلح ويدور في ذهن رامي، لماذا كل هذا لها، وهي لا تعمل بها ولا يراها أحدٌ في القرية إلا في المناسبات البعيدة، ولماذا هذه الأرض ليست لمن يزرعها ويرويها بعرقه، ويعتني بها من الصباح إلى المساء، ومن الخريف إلى الشتاء، ومن الربيع إلى الصيف، ومن الطفولة إلى الكهولة؟
توالت السنين وأصبح رامي في ريعان الشباب، شابٌ مليءٌ بالعنفوان، وحب الحياة والأحلام الوردية.
وكما إعتاد على مر السنين إنتقل إلى القرية لقضاء العطلة، فوجدها في حال إرباك على غير عادتها، فلاحون مستاؤون، شبابٌ غاضب، الكل يتهدد ويتوعد، ولم يعرف رامي سبباً لذلك. فوقف مع الجميع وأخذ يراقب ما يحصل.
عاطف : هذه أرضنا جبلت بعرقنا.
نبيل : نحن أبناء هذه الأرض وليست الست.
ناصر : لن تدخل القرية، سندفنها على مدخلها، لتعود من حيث أتت، أتعتقد أنها ستوزع علينا "البونبون" كما كان والدها يفعل مع أجدادنا.
وفجأة هتف أحدهم، وصلت "الست". ساد السكون، تطاولت الأعناق إلى ناحية تلك السيارة الفخمة وهي تشق طريقها وسط الحقول والبساتين لتقف في الساحة، فينزل سائقها ليفتح الباب الخلفي وتترجل منها سيدة أربعينية، أنيقة، كل ما فيها يدُلُ على النعمة والرخاء.
إنتظر رامي، وحدق ببصره ناحية من كان يطلق الوعيد، فما رأى إلا سكوت تلك الأصوات التي كانت تهدر بتلك الكلمات الرنانة، ليطرق مكانها مسامع الجميع، أهلاً ستنا!! شرفتي الضيعة!! نورتينا!! تقدم منها أبو خليل وجيه القرية ليدعوها إلى منزله، ولحق به أهل القرية ليلتفوا حول مقعد "الست" في حديقة منزل الوجيه ابو خليل الذي عمل كل ما وسعه للإحتفاء والتكريم والقيام بواجب الضيافة "للست".
تحدثت "الست" مطولاً عن مشاريعها الخاصة ورؤيتها المستقبلية للأرض التي تملكها، وعن ما تطلبه من الفلاحين الذين يزرعونها وتقاسمهم المحصول، وكان حديثها أوامرٌ يجب أن تنفذ أكثر مما هي مطالب، ومن لا يروق له الأمر، هناك الكثير من الفلاحين يتمنون أخذ مكانه.
الجميع يستمع، لا إعتراض، لا مطالب من الفلاحين سوى "أمرك ستنا"!! "ما بيصير إلا على خاطرك ستنا"!!.
وقبل مغادرة الست للقرية وهي في طريقها إلى الساحة لستقل سيارتها، وبجانبها وجهاء القرية، وخلفها الفلاحين، كانت توزع "البونبون" على كل من تصادفه، وكان أكثر ما أدهش رامي من كل ما رآه، حينما شاهد ناصر أول من يأخذ "البونبون" من يد الست.