الرصاصة في دنيا الناس هي ذلك الجرم المادي المعروف الذي ينطلق كالبرق عندما يداس على الزناد، فينزف الدم سريعاً ليلطخ تلك الثياب ناصعة البياض، أو حتى شديدة السواد، وليسجِّل جريمة جديدة في سجلِّ الشر، ضحيّتها رجل أو طفل، وربما كانت أنثى لا تعرف للشرِّ طريقاً .. أمّا الرصاصة في نظري فهي ذات دلالة أوسع من ذلك بكثير، إذْ قد تكون كلمة أو قصيدة أو أنّها موقف عارض أو كتاب أو رواية أو قصة أو دمعة أو حادث أو موت أو أنّها .. من صروف الزمن وحوادثه العديدة والمتنوّعة، والأثر الذي تحدثه هذه الرصاصة المعنوية غالباً ما يكون عميقاً وغائراً في الصدر، ومؤثِّراً على صاحبه أشدّ الأثر وطول العمر، وربما نتج عن هذه الرصاصة اختلاف في المعتقد والأيدولوجيا أو تبدُّل في نمط الحياة وتغيير في برنامج الإنسان وسيرته وسلوكه مع بني جلدته، وممن حوله من البشر، وربما مع أقرب الناس له أو ... والقاسم المشترك بين هذا النوع من الرصاص، والرصاصة الحقيقية ذات الأثر الغائر في الجسد وربما القاتل السرعة وقوة الاختراق وعظم الأثر وشدّة وقع الألم .. وقد سمعت الكثير من القصص التي تبرهن على ما أشرت إليه هنا، ومنها على سبيل المثال .. يذكر لي أحد الزملاء أنّه كان لا يعود إلى منزله إلاّ في ساعة متأخرة من الليل ولا يكترث بدوره، باعتباره زوجاً وولي أمر وقوام في بيته، حتى شاء الله أن يزورهم في استراحتهم زميل لهم عزيز على الجميع، وعندما تناول العشاء استأذن للانصراف، طلب منه الجميع أن يسهر معهم فالجلسة توه تزين .. وش معجلك .. الليل طويل .. مبطين ما شفناك .. وش فيك تمن بنفسك علينا .. وما ماثل ذلك من كلمات)، فرفض هذا الزائر بحجّة كانت وقتها حجّة واهية في نظري محدثي، لقد قال لهم بالحرف الواحد (لا بدّ أن أكون في بيتي ... إنّني لا أتأخر أبداً خارج المنزل في مثل هذه الليالي فأبنائي وزوجتي أحق بي)، يقول هذا الزميل كانت كلماته سبحان الله كالرصاصة التي أصابتني في مقتل خاصة قوله (أبنائي وزوجتي أحق بي) ... قمت على الفور من مجلسي الذي تعوَّدت كلّ مساء أن أجلس فيه حتى وقت متأخر من الليل، ودخلت منزلي فاستغرب كلُّ من في البيت من عودتي مبكراً على غير العادة، ومنذ ذلك الحين وحتى اليوم أصلِّي العشاء ثم ألج إلى داري، قناعة مني بأنّ أولادي وزوجتي لهم حقٌّ عليَّ، وبهذا وفّقني الله لتربية أولادي التربية الصحيحة الصالحة، فصار منهم الطبيب والمعلم المتميِّز في تخصُّصه، والأهم من ذلك كله أنّهم جميعاً على خُلق متميّز ودين مستقيم ولله الحمد والمنّة .. ويذكر لي زميل آخر عن نفسه أنّه كان لا يهتم كثيراً بدراسته عندما كان طالباً في الجامعة، وفي إحدى المحاضرات طرح أستاذ المادة مسألة في الرياضيات وتحدّى الطلاب الإجابة عليها .. كنت أجلس في الصفوف الخلفية ولا يتوقّع أحد من الزملاء، ومن قبلهم الأساتذة، أنّ بمقدوري أن أجيب، فكيف بي أقبل التحدِّي بإرادتي المطلقة وأعطي الإجابة الصحيحة 100% وبطريقة لم تخطر على بال الأستاذ .. رفعت يدي بعد أن أعلن الجميع عجزهم، وقمت إلى السبورة وكتبت الإجابة الصحيحة بكلِّ تفاصيلها وبطريقة علمية رائعة لا أنساها ما حييت .. صفَّق لي الجميع، أما أستاذي الفاضل، فقد كتب تحت الإجابة وبخط عريض وواضح جداً (د - محمد ...)، راق لي اسمي الجديد بعد إضافة الدال، ومنذ تلك اللحظة حدَّدت لنفسي هدف الحصول على هذه الشهادة، وبحق كان هذا الموقف رصاصة خرقت ذاتي فغيَّرت من حياتي إذْ صرت من الطلبة المتميّزين وتخرّجت بتفوُّق، فاختارتني الجامعة معيداً في الكلية وابتعثتني للدراسة في الخارج، وما هي إلاّ سنوات معدودة من عمري فإذا بي أصبح د - محمد ...، أمّا الرصاصة الثالثة فقد كانت رواية، يقول محدثي لقد قرأت هذه الرواية وأنا في ثالث متوسط وأعجبتني كثيراً، خاصة شخصية البطل، حاولت أن أتقمَّصها منذ ذلك الحين، وأعدت قراءتها مرة أخرى وأنا في الثاني ثانوي وقرأتها ثالثة وأنا على مقاعد المرحلة الجامعية وما زلت أحتفظ بها مع أنني قد أحُلت للتقاعد، وقد لا تصدقني إنْ قلت لك إنّ أحداث هذه الرواية بكلِّ تفاصيلها طبعت حياتي ومرت جلّ المواقف التي مر بها بطل الرواية حتى في زواجه من محبوبته، وافتعال الأحداث الدرامية التي تؤدِّي في النهاية إلى طلاقها منه مع أنّه يحبها، وزواجه بأخرى بحثاً عن السعادة التي كان يتصوّر أنّها مفقودة في ظل غيرته الزائدة على زوجته، أقصد عشيقته قبل الزواج، إنّها بحق رصاصة أصابتني بمقتل فرسمت معالم حياتي حتى اليوم .. والرصاصة الرابعة كلمة ألقاها صديق لصديقه الذي كان يصحبه معه في سيارته. لقد كان بيد الراكب (علبة بيبسي) بعد أن شربها رماها في قارعة الطريق، فتوقَّف الصديق فور رمي العلبة بشكل ملفت للانتباه، والتفت لصديقه معاتباً بكلمات نصها: (آفا .. ما توقّعت إنّها تصير منك)، يقول محدثي ومنذ تلك اللحظة صارت كلمة (آفا) تلاحقني كلما هممت برمي شيء في الشارع، حتى صرت ألتزم بهذا السلوك الرائع بحق عن قناعة تامة .. والقصص في هذا الباب كثيرة جداً، ولقد حرصت أن تكون الواردة أعلاه ذات مساس بحياتنا اليومية (السهر خارج البيت من قِبل ولي الأمر وعدم الاكتراث بحقوق الزوجة والأولاد .. إسقاط أحداث الروايات التي تجنح إلى الخيال غالباً على دراما الحياة الذاتية والأُسرية الواقعية الخاصة .. الرغبة في التفوُّق والتميُّز الدراسي .. المحافظة على البيئة وعدم رمي المخلَّفات في الشارع ...). وجزماً أيّها القارئ الكريم أنّك سمعت مثل هذه القصص وربما أكثر وأشد، وقد تكون أنت ممن أصابته هذه الرصاصة فأثّرت بك وغيّرت من سلوكك، وهناك من تعرّض لرصاص عديد ولكنه ما زال على سلوكه المعهود، أو أنّه تغيّر وعقد العزم على الاستمرار وما هي إلاّ أيام وإذْ به يعود، وهناك من ما زال بعيداً عن الرصاص محل الحديث والواجب عليه في نظري أن يحمد الله أولاً ويستفيد ثانياً من تجارب الآخرين ولا ينتظر حتى ترسل عليه رصاصة مقصودة أو يتعرّض لطلق طائش يهزه من داخله ويرسم له طريق النجاة والسعادة والاستقرار فالعاقل من اتعظ بغيره.