لأجل وضع النقاط على الحروف في قضية الأمانة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ينذر كل من تسول له نفسه بشيء من الخيانة فيها، يقول في الحديث الصحيح: حيث “كُلّكُمْ راعٍ ومسؤول عن رعيته، فالإمام راع ومسؤول عن رعيته والرجل في أهله راع وهو مسؤول عن رعيته والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسؤولة عن رعيتها والخادم في مال سيده راع وهو مسؤول عن رعيته وكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته”. (البخاري ومسلم).

النبي العظيم في هذا الحديث الذي هو من جوامع كَلِمه يضع كل فرد من أفراد الأمة أمام مسؤوليته، وإن كان الحديث مشتملا على خمسة أصناف من المسؤولية، إلا أنه يذكر بأن كل واحد من سواد الأمة رجلا كان أم امرأة كبيرا أم صغيرا سيدا أم خادما فإنه يحمل جزءاً من المسؤولية بحسب إمكاناته وقدراته، وثقافته وموقعه، وذلك بقوله عليه السلام:

“وكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته” فبهذا النص الجامع لا يُعفى أحدٌ من المسؤولية، لأنه داخل في هذا العموم، فالوظائف كلها أمانات، لا يشذ عن الوفاء بها عاقل قادر، لأنها من الأمانات الكبرى التي يوليها الإسلام ما يليق بها، ويوصي كل إنسان بإجادتها والإحسان فيها.


خيانة الأمانة

عن عدي بن عميرة قال، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من استعملناه منكم على عمل فكتَمَنا مَخيطا - خاط الثوب يخيطه فهو مَخِيط - فما فوق كان غلولا يأتي به يوم القيامة.. رواه مسلم والغُلول: الخيانة في المغنم

فكل من يظن أن عمله لا حساب عليه، فقد جنح إلى الضلال وخان عهوده، قال تعالى في خطاب مصطبغ بالشدة: “يا أيها الذين آمنوا لا تخُونوا اللهَ والرسولَ وتخونوا أمانَاتكِم وأنْتم تعلمون” (الأنفال: 27).

هذه الآية بعد أن ناقش الإمام الرازي أسباب نزولها قال: فكان معنى الآية: إيجاب أداء التكاليف بأسرها على سبيل التمام والكمال من غير نقص ولا إخلال، أما الوجوه المذكورة في سبب نزول الآية فهي داخلة فيها، لكن لا يجب قصر الآية عليها، لأن (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب).

وجاء في الكشّاف: معنى الخَون النقص، كما أن معنى الوفاء التمام. ومنه تخوّنه أي انتقصه، ثم استعمل ضد الأمانة والوفاء، لأنك إذا خنت الرجل في شيء فقد أدخلت عليه النقصان فيه.

أما قوله وأنتم تعلمون ففيه وجوه:

الأول: أن الخيانة توجد منكم عن تعمد لا عن سهو.

الثاني: وأنتم علماء تعلمون قُبح القبيح، وحُسن الحسن.

ثم إنه لما كان الداعي إلى الإقدام على الخيانة هو حب الأموال والأولاد فقد نبّه تعالى إلى أنه يجب على العاقل أن يحترز عن المضار المتولدة من ذلك الحب فقال - في عقبها “واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة”.

عقاب من الله

قال الإمام ابن تيمية في كتابه السياسة الشرعية:

“إن مؤدى الأمانة مع مخالفة هواه، يثيبه الله فيحفظه في أهله وماله بعده، والمطيع لهواه يعاقبه الله بنقيض قصده، فيذل أهله، ويُذهب ماله”.

لكن لضعف الإيمان فإن البعض يتعلل في تقصيره، بأنه أمسى مهدَر الحقوق، لا يأخذ ما يكفيه، ومن ثَم فهو لا يعمل إلا على قدر فلوسهم، وتلك شبهة لا تنهض على دليل ولا تبرّر ذلك التقصير.

فنبيّ الإسلام يقول: “ستكون أثَرةٌ وأمور تنكرونها” قالوا: يا رسول الله، فما تأمرنا؟ قال: “تؤدون الحق الذي عليكم وتسألون الله الذي لكم” رواه البخاري ومسلم والترمذي وأحمد.

والأثرة هي تفضيل النفس، وتضخيم حظوظها بالحق والباطل، وهذا الحديث من إنباء النبي بالغيب، فهو من معجزاته، والذي يعنينا هنا هو: “وجوب عمل الخير وإن فسد الناس” فهذا ما أرشد إليه نص الحديث.

إن إهمال أمانة الوظائف والعمل، معناه شيوع الفساد في المرافق كلها، وانتشار أخلاق الرشوة والخيانة وعدم الاكتراث، بل وتوريثها لأجيال جديدة بريئة، ولذلك كله فإن الوظائف كلها أمانات يجب أن تؤدى بحقها.