الغَرِيَّانِ: تثنية الغريّ وهو المطلي، والغِراء ممدود وهو الغراء الذي يطلَى به، والغريّ فعيل بمعنى مفعول، والغري الحسن من كل شيء يقال: رجل غريُّ الوجه إذا كان حسناً مليحاً، فيجوز أن يكون الغري مأخوذاً من كل واحد من هذين. والغري نُصُب كان يذبح عليه العتائر.

والغريَّان طِرْبالان، وهما بناءان كالصَوْمعتيْن بظاهر الكوفة، بناهما المنذر بن امرئ القيس بن ماءِ السماءِ. وكان السبب في ذلك أنه كان له نديمان من بني أسد يقال: لأحدهما خالد بن نضلة والآخر عمرو بن مسعود، فثمِلا فراجعا الملك ليلة في بعض كلامه، فأمر وهو سكران فحفر لهما حفيرتان في ظهر الكوفة ودفنهما حيين. فلما أصبح استدعاهما فأخبر بالذي أمضاه فيهما، فغمه ذلك وقصد حفرتهما وأمر ببناء طربالين عليهما، وهما صَوْمعتان. فقال المنذر: ما أنا بملك إن خالف الناس أمري، لا يمرّ أحد من وفود العرب إلا بينهما.

وجعل لهما في السنة يومَ بؤس ويوم نعيم، يذبح في يوم بؤسه كل من يلقاه ويغري بدمه الطربالين، فإن رُفعت له الوحش طلبتها الخيل وإن رُفع طائر أرسل عليه الجوارح حتى يذبح ما يعن ويُطلَيان بدمه. ولبث بذلك برهة من دهره وسمى أحد اليومين يوم البؤس، وهو اليوم الذي يَقتل فيه ما ظهر له من إنسان وغيره. وسمى الآخر يوم النعيم يُحسن فيه إلى كل مَنْ يلقى من الناس ويحملهم ويخلع عليهم.

فخرج يوماً من أيام بؤسه إذ طلع عليه عَبيد بن الأبرص الأسدي الشاعر، وجاء ممتدحاً فلما نظر إليه. قال: هلا كان الذبح لغيرك يا عبيد؟ فقال عبيد أتتك بحائن رِجلاه، فأرسلها مثلاً. فقال له المنذر أو أجل قد بلغ أناه. فقال رجل ممن كان معه: أبيت اللعن، اتركه فإني أظن أن عنده من حسن القريض أفضل ما تريد من قتله فاسمع، فإن سمعت حسناً فاستزده، وإن كان غيره قتلتَه وأنت قادر عليه. فأنزل فطعم وشرب ثم دعا به المنذر فقال له: زِدنيه ما ترى؟ قال: أرى المنايا على الحوايا. ثم قال له المنذر: أنشدني فقد كان يعجبني شعرك. فقال عبيد: حالَ الجريض دون القريض، وبلغ الحزامُ الطبيين، فأرسلهما مثلَين. فقال له بعض الحاضرين: أنشد الملك ثكلتك أمك. فقال عبيد: وما قول قائل مقتول؟ فأرسلها مثلاً، أي لا تدخل في همك من لا يهتم بك. قال المنذر: أمللتني فأرحني قبل أن آمر بك. قال عبيد: من عز برّ؛ فأرسلها مثلا. فقال: المنذر أنشدني قولك:

أقفر من أهله ملحوب

فقال عبيد:

أقفرَ من أهله عبيد

فاليوم لا يبدي ولا يعيدُ

عنَّتْ له مَنيةٌ تكود

وحان منها له وُرود


فقال له المنذر: أسمعني يا عبيد قولك قبل أن أذبحك، فقال:

والله إن مت ما ضرني

وإن عشت ما عشت في واحدَة

فأبلغ بَنيَّ وأعمامهم

بأن المنايا هي الواردة

فلا تجزعوا لِحِمام دنا

فللموت ما تلد الوالدَة


فقال المنذر: يا عبيد لا بد من الموت، وقد علمتَ أن النعمان ابني لو عرض لي يوم بؤسي لم أجد بُداً من أن أذبحه. فأما إن كانت لك وكنت لها فاختر إحدى ثلاث خلال: إن شئت فصدتُك من الأكحل، وان شئت من الأبجل وإن شئت من الوريد. فقال عبيد: أبيت اللعن، ثلاث خلال كساحيات واردها شر وارد، وحاديها شر حاد، ومعاديها شر معاد، فلا خير فيها لمرتاد. إن كنت لا محالة قاتلي فاسقني الخمر حتى إذا ماتت لها مفاصلي وذهلت منها ذواهلي فشأنك وما تريد من مقاتلي. فاستدعى له المنذر الخمر فشرب فلما أخذت منه وطابت نفسه وقدمه المنذر أنشأ يقول:

وخيرَني ذو البؤس في يوم بؤسه

خلالا أرى في كلها الموت قد برَق

كما خُيرَت عاد من الدهر مرة

سحائب ما فيها لذي خيرة أنقْ

سحائب ريح لم توكل ببلدة

فتتركها إلا كما ليلة الطلقِ


ثم أمر به المنذر فقُصد حتى نَزَف دمه. ولما مات غري بدمه الغرَيين.