الأنتحار فنون

لفت نظري ما نشر الأسبوع الماضي أن مدينة بكين تتمتع بأعلي معدلات الانتحار في العالم ، إذ يتخلص فيها ربع إنسان من حياتهم كل سنة - أكثرهم من الشباب - بجانب ثلاثة ملايين محاولة انتحار ، كما ذكر العالم النفسي الصيني : لي هونج ، من مركز بكين للوقاية من الانتحار . وهم يتخلصون من حيواتهم لأسباب عدة ، منها : صعوبة الحياة وضغوطها ، وتفسخ العلاقات الزوجية ، والبطالة ، والإيدز ، وغيرها .




والحق أنني لا أثق بالإحصاءات لأنها خادعة جدًّا ، إذ تعطي إيهامًا بالدقة ، والحيادية ، والمنهجية ؛ في حين أنها ادعاءات يمكن تحريكها لدعم وجهات النظر المتعارضة . والمثال الذي بين أيدينا عن الانتحار أكبر دليل علي الأوَنطة والتزوير في الحقائق ، وإيهام الناس بالدقة ، والمنهجية ، وبالصدق والحيادية !


فإذا كانت بكين - علي ضخامتها وتعدادها - تفقد ربع مليون ، فإن عندنا شعوبًا من عشرات الملايين ، هي بكاملها منتحرة ، مفقودة ، يائسة من تغير الزمان والحال والأمل والمستقبل والفاعلية ، ومن التأثير في العالم ، إلا سلبًا !


فهل هناك أصعب من انتحار شعوب بكاملها ، عشرين أو ثلاثين أو حتي سبعين مليونًا من الكائنات السلبية اللي لا بتهش ولا بتنش ؟! كيف تسبقنا بكين ؟!


لكن أولاً : دعونا نسأل : لماذا ينتحر بعض الناس ؟ لماذا يطفشون من الدنيا ، ويتركون الجمل بما حمل ، ويرفضون الاستمرار في هذا العالم الرائع البديع الذي ننعم فيه بالأمن والرفاهية ، ونحس ع الآخر بآدميتنا ، في ظل النظام العالمي المتعنجه ، المستكبر ، العنصري ، المتعصب ، المتشنج ، المحب للحروب والدمار !




هناك في ظني أسباب كثيرة يمكن أن تجعل الإنسان يتكل علي الشيطان ، ويتخلص من حياته ، وليست كلها أسبابًا جادة أو خطيرة ، فقد يفعل ذلك أناس هايفين ينتحرون لأسباب خايبة ، كالغرق في بحار الحب التي يفقد بعضهم فيها عقله ، من أجل بنت مفعوصة ، أو افتتانًا بولد دبلوم صنايع ، مالهوش في أي حاجة ، تمامًا كما فعل الأخ العواطلي روميو ، اللي موِّت نفسه عشان حتة بت مسلوعة اسمها جولييت ، والأستاذ قيس بن الملوح اللي اتجنن رسمي ، وكان يجري ورا البقر الوحشي في الصحرا المها علي أساس إن عيونها زي عيون حبيبته ليلوه بالله عليكم واحدة عيونها زي عيون البقرة ؛ ازاي تنحب ؟ ولما علم أنها تزوجت راح يستحلف جوزها ، ويسأله أغبي وأحمر سؤال يمكن أن يسأله إنسان لشخص متزوج :
بربك هل ضممتَ إليك ليلي
قبيل الصبح .. أو قبلتَ فاها ؟
وهل رفّت عليك قرونُ ليلي
رفيف الأقحوانة في ضحاها ؟
أهذا سؤال يسأله أحد لرجل متزوج ؟ لقد لحست ليلوه عقله ، حتي انتهي به المطاف لينسحب من الدنيا بطريقته ، فوجده بعض الحطابين مكومًا علي كثيب رمل ، قريب من حي العامرية صاحبته ، وقد مات جوعًا وعطشًا وحبًّا !


وقد ينتحرون لأنهم يعانون من مرض يتعب أبدانهم ونفوسهم ، ييأسون معه من الحياة ، فيبحثون عن الخلاص من أنفسهم بأيديهم ، أو بيد عمرو ، الذي قد يكون طبيبًا ساديًّا ، يقتل خلق الله ، تحت مسمي اليوثانزيا ، أو الموت الرحيم !


وأسوأ منه الذي ينتحر دلعًا وبطرًا ؛ بأن يضيق بكثرة نعم الله عليه ، ويتبطر ، ويكتئب ، ويهرب من الحياة بطريقة هوليودية كما فعلت المحروسة مارلين مونرو ، التي غرقت في الفلوس والشهرة والمخدرات والجنس الحرام ، وفتنت رجال الدنيا آنذاك بمياصتها ، حتي إنها جابِت رِجْل الرئيس الأمريكي البصباص جون كينيدي ، فوقع في دباديبها ، لكنها لم تطق هذه النغنغة والسعادة كلها ، فشربت حاجة صفرا ، وباي باي يا دنيا !


http://www.etoon.com/cartoon-store/i...larov/0447.jpg

ولأن الشباب الأوربي ما شاء الله عليه مبدع ، فقد اخترع الانتحار رقصًا وسكرًا : تجتمع الشلة ، ويشغِّلون موسيقي هيفي ميتال حراقة صاخبة عنيفة ، ويُبلبعون ويشمون ويشربون ويفجرون ، وهُبّ أُوفَر دُوز ، ويودع أحدهم الدنيا ، إلي حيث ألقت رحلها أم جميل !




ونظرًا للمنافسة الحضارية المتكافئة بين كوبا وأميركا ، فقد اخترع الشبان الكوبيون - الذين سموا أنفسهم الفريكيز - موتة يهربون بها من الهنا والنعيم ، اللي منغنغهم فيه الريس كاس - ترو والذي يقدم خدمات لمرضي الإيدز ، لا يحلم بها الأصحاء ، ما جعل الشبان يقولون : إيدز إيدز ومالُه ، ناكل ونشرب ولو كم شهر ببلاش ، ولهذا يملأ أحدهم سرِنْجة بدم ملوث بفيروس الإيدز ، ثم يحقن نفسه بهذا الدم ، وبعد مدة ليست طويلة يودع الدنيا ، آسفًا علي الكم شهرًا ، التي قضاها بعيدًا عن الحرية ، والعز ، والنعيم الذي غمره به الأخ الرفيق الأمجد والزعيم الأوحد كاس .. ترو .


وإذا كان كثير من المنتحرين يهرب بعيدًا ؛ لينتحر في غفلة من الناس ، فإن هناك نوعًا من الانتحار الاستعراضي الذي يحرص صاحبه أن يمارسه أمام الناس والكاميرات ، حيث يتجمع الخلق يرجونه : ارحم شبابك .. بليز ما تموتش روحك ، وحيث تكون الكاميرات تصوره ، وحيث تأتي المطافي لإنقاذه ، وحيث تكون هناك ألف طريقة للوصول إليه ، فالمسألة عنده أن يقول للناس أنا هنا لذلك رأينا نسبة الناجين من الانتحار في الصين تبلغ 5 من كل 6 ، لأن أكثر المنتحرين استعراضيون .







لكن الجادين أيضًا يستخدمون وسائل لا يمكن التراجع فيها ، لأنها إذا مست الجسم أجهزت عليه ، ولا أزال أذكر الأيرلندي بوبي ساندرز الذي دلق علي نفسه جاز ليحترق أمام الخلق في الشارع ؛ احتجاجًا علي السياسة البريطانية الغبية حتي قبل المسيو بلير ، ولا أزال أذكر الكوريين الذين فعلوها أمام الصحفيين ، واليابانيين الساموراي الذي ينتحرون بطريقة الهيراكيري ، بأن يطعن أحدهم نفسه في بطنه حتي تتمزق أحشاؤه ، أنفة وكبرياء ورفضًا للهزيمة .


كل هذا لا يعنيني كثيرًا الآن ، بقدر ما تعنيني أشكال من الانتحار الجماعي تحتاج تأملاً ، وتستدعي خبط الكف علي الكف ، والبسملة ، والحوقلة ، وضرب الأخماس بالأعشار ، عجبًا ، وحيرة ، وربما قرفًا !


* الإنسان الذي يعيش دون ماء نظيف ، ولا هواء نقي ، ولا مرافق صحية ، ولا تعليمية ، ولا ترفيهية ، ويرفل في نعيم الفساد الإداري والسياسي والتعليمي بتاع العالم الثالث ، ولا يزيد دخله الشهري هو واللي مخلفينه واللي مخلفهم عن 30 دولارًا أمريكيًّا مع العلاوة علي الإنصاف ويتمرغ في نعيم الميري ، أليس منتحرًا مع سبق الإصرار والترصد !؟ ألا يقطِّعنا العجب حين نراه يسمع عن الديمقراطية والحرية والمساواة ورفع المعاناة لمدة خمسين سنة - إذا كان أبًا ومسؤولاً عن أسرة - ثم هو يصفق للذين يعطونه الدولارات الثلاثين - بالسم الهاري - ويقبل منهم زعمهم بأنهم ديمقراطيون ، وأبطال للتحرير والتنوير ، والمدنية والرقي ، ويدعو لهم بطول العمر ، وحسن الأجر ، معتقدًا أن الرزق بأيديهم ، وأن بيدهم الخلق والأمر ، من دون الله رب العالمين !؟


* أليس منتحرًا - مع سبق الإصرار والترصد - من يرضي بأنظمة استبدادية ، متأستذة في القمع والتعذيب ، ونهب الثروات ، وتأخير البلاد ، وقهر العباد ، ومحادة رب العباد سبحانه ، وخيانة تاريخ بلادها وجغرافيتها ، ودينها وحضارتها ، وحاضرها ومستقبلها ، وأمنها وحريتها !؟ ويهتف لها عند اللزوم : بالروح بالدم ، نفديك يا زعيم ؟!


ألا يري أبناء العالم الثالث أجمعون أن أوربا وإسرائيل وأمريكا واليابان طلقت النظم العسكرية بالثلاث ، فانطلقت وحلقت ، وبنت وتحضرت ، وتوفرت فيها ديمقراطيات لها حق أن تفخر بها في كثير من المساحات والأحوال ؟ في حين أن أبناء العالم الثالث كلهم محكومون بالحذاء العسكري الذي طبق فيهم فنون التخلف والقهر والهدر والعهر والاستباحة والقباحة والتعجيز ، وابتلاهم بالخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات ، وأراهم معني الضنك الحقيقي اللي ما يتنسيش ؟!


أليست منطقة الخليج - وهي من العالم الثالث - هي خير هذه البلاد رفاهية وأمنًا ، وحرية وتطلعًُا ، واحترامًا للإنسان - رغم ضغط الغرب عليها ، و ابتزازه إياها ، وتشويه حالها - لأنها لم تمكن قبضات العسكر من أعناق أهلها ، وظلوا يتعاملون مع الشعوب وفق نظام مدني ، فيه الكثير من القيم والأصول والاعتبارات الدينية والعشائرية ، فتافسوا في البناء ، وعمروا الخلاء ، وخضروا الصحراء ؛ عكس الذين تسلموا بلدانًا معرقة في الحضارة ، ضاربة في عمق التاريخ ، ملتفة في الخضرة ، مغمسة بالقيم ، فجعلوها قاعًا صفصفًا ، لا تري فيها حرية ، ولا حضارة ، ولا وفرة ولا أمنًا !


* أليست هناك دول وأنظمة تنتحر بمزاجها حين تدمن الإهمال ، وتتجاهل المستقبل ، وتسيء التخطيط ، وتغيب رؤيتها الحضارية ، وتترك شبابها للبطالة ، وتعليمها للجهالة ، وتغامر باقتصادها وأمنها ، ودنياها وآخرتها ، وتظن أن التحضر في جلب قنوات زي دريم ومزيكا وميلودي ، وأن الانضمام للناتو والاتحاد الأوربي سيأتي عبر نانسي عجرم وإيناس الدغيدي ونوال السعداوي ، والمعلم موحة بتاع البانجو ؟
إيييييه .. رايحة فين يا أمة محمد صلي الله عليه وسلم ؟!!

جريدة الراية - http://www.raya.com/site/topics/stat...6&parent_id=13







وأسأل الله أن يبعدنا عن تلك الأمور

فهد الفهد