الإنسان المتطرف إنسان حدي متعصب في كل شيء، يرى الأمور دائماً في وضع لا يعرف (النسبية)، الحالة (الوسطية) ليس لها في تصوره أي وجود، بل يرفض أن يكون لها وجود، لأنه لا يجد فيها إلا أنها ضرب من ضروب (تمييع الحقيقة)؛ لذلك تراه يتصرف ويتحدث ويكتب ويمارس أنواع التعبير كلها عن نفسه، انطلاقاً من أن مهمته الأولى التي خلقه الله لها أن (يحمل) الناس حملاً وبالقوة والإكراه على أن يؤمنوا بما يؤمن به؛ فقناعاته هي مقياس الصواب، واجتهاداته هي الحقيقة، وما عداها هو الخطأ بعينه. وهو يصدر عن ذهنية لا تعرف الاتزان، ونفسية لا تمت للموضوعية والعقلانية بصلة، ففي طيف تفكيره لا يوجد إلا لونان فقط: إما الأسود الكالح السواد، أو الأبيض الناصع البياض؛ وفي ألوان هذا الطيف لا وجود للون الرمادي البتة، فهو عندما (يختلف) معك، لا يتورع عن إلغائك، وإذا لم يتمكن قام بإقصائك، وإذا عجز يبادر تحت أي حجة إلى (سلب) حرياتك كلها التي حباك الله إياها حتى التفكير والتعبير؛ ولتحقيق غاياته لا يتعفف من أن يشتم ويتقول ويزور ويكذب ويلفق الحقائق، بل وقد (يغتال)؛ ثم يبرر تصرفاته غير الأخلاقية تلك - بينه وبين نفسه - أن غاياته (السامية) تشفع له أن يمارس ما يريد دون أي وازع من دين أو ضابط من أخلاق.
هدفه وغاية غاياته أن يدعم يقينه؛ المراجعة و(إعادة النظر) لا وجود لها في قواميسه؛ ودليل الإثبات أو النفي في مرافعاته كلها ما وافق أهواءه، وتماشى مع رغباته ورسخها؛ فهو (ينتقي) من الأدلة ما يراه يواكب قناعاته، ويرفض أن يلتفت إلى ما خالفها.. (الانتقائية) في منطقه، هي المرتكز التي يقوم عليها (دليله)، وهذه الخاصية بالذات - أعني (الانتقائية) - أحد الأمراض (المعرفية) الشائعة بين المتطرفين كما يقول المتخصصون النفسيون.. لذلك فالمتطرف يرى الناس إما أعداء وإما أصدقاء، إما معي أو هم بالضرورة ضدي، إما موافقون (للاجتهادات) التي أحملها أو هم بالضرورة أنداد للحقيقة، أي حقيقة، على الإطلاق.. وقد تتطور هذه الحالة (المرضية) أحياناً إلى درجة يكون فيها المخالفون له إما كفاراً وإما مؤمنين..! هو كتلة من التناقضات المتراكمة، والمتشابكة، والمتداخلة التي لا تنتظم في سياق، ولا يربطها رابط؛ فهو يحوي الرأي ونقيضه في الزمن ذاته والموضوع ذاته؛ شخصيته (القلقة) تملي عليه دون أن يعي أن يرى الناس بعين الشك دائماً.. وبالمختصر المفيد يستحيل عليك أن تفهم هذا الكائن الإنساني (المعقد) إلا إذا علمت أن الذي أمامك على درجة (ما) من (التطرف).
هذه النفسية المريضة والمعقدة والمأزومة هي التي تذكي نيران التعصب، وتشعل الأزمات والحروب، وتدمر الإنسان والأوطان.
وهي الآن الشخصية (النمطية) المسيطرة على الوضع في العراق، ولا يعني ظهورها بهذا الشكل الدموي والتدميري هناك، أن بقية المجتمعات الناطقة بالعربية سالمة منها؛ بل هي خارج العراق - أيضاً - في وضع (كمون)، سوف تنشط متى ما وجدت الفرصة وتهيأت الظروف والبيئة لنشاطها لتعيث فساداً في الأذهان والبلدان والثقافات، ولدينا في المملكة (كم) لا يقل عن كمية المتطرفين في العراق أو في أفغانستان؛ فهناك من المؤشرات والدلائل ما لا يحصى يؤكد ما أقول، وهذا ما يجب أن نتنبه إليه قبل أن يسبق السيف العذل، وتكبر وتتوالد وتتكاثر مثل هذه العينات، لتكون كلفة القضاء عليها والتعامل معها مرتفعة وباهظة جداً؛ ولنا من التجارب في هذه المجالات، منذ جهيمان وحتى بن لادن، ما يُغني عن ضرب الأمثلة.
المملكة - كدولة كبرى في المنطقة - معرضة لأن تواجه الكثير من الأخطار والمفاجآت التي لم تكن في الحسبان.. وجود هذا (الفكر المتطرف) بين ظهرانينا، ودخوله إلى كل بيت، بل كل أسرة، رجالاً ونساء على السواء، يجعل مثل هذا الفكر الذي يمد رأسه بين الحين والآخر، بمناسبة ومن دون مناسبة، وبسبب ومن دون سبب، بمثابة (القنبلة) الموقوتة المرشحة للانفجار نتيجة لأي ظرف نزع فتيل انفجارها لا يمكن أن يكون إلا بالتوعية، والمواجهة الجريئة ثقافياً، وحملهم على (الحوار) حملاً، ونقدهم ونقد فكرهم بشجاعة، واستخدام المنابر كلها والمنصات الإعلامية لبث ثقافة (التسامح)، وحوار الآخر، واللاعنف، وترسيخ القيم الإنسانية؛ ليس من خلال مؤسساتنا الإعلامية والتربوية والدراسية فحسب، وإنما أيضاً بالتضييق على (مخرجات) هذه الثقافة كلها التي تغذي التطرف بأنواعه جميعاً.
ولا ننسى أن ثمة للتطرف (تجاراً) وتجارة قائمة، تأجيج هذه الثقافة وتكريس مفاهيمها يقوم عليها بقاؤهم ومصالحهم ونفوذهم.. وعندما نحارب التطرف فنحن نحارب في الواقع (طحالب) تعيش على ثقافة التطرف، وتحميها، وتعرف أن (تجفيف) منابعها، موت لها أو لمصالحها.
القضاء على ثقافة التطرف (أمنية) غالية نتفق على أهدافها جميعاً، غير أن (تنفيذها) على أرض الواقع هو أشبه ما يكون بتحويل هذه (الصحراء) الجرداء من الجدب والعطش والفقر إلى مدن حية واقتصاد وخدمات ومستشفيات وعلم وثقافة و(مدنية) غناء؛ بمعنى لا بد من الوقت والجهد والصبر.. وفوق ذلك أن تكون تنمية عقول البشر و(تنويرها) لها الأولوية القصوى في سلم أولوياتنا التنموية؛ وهذا في رأيي جزء رئيس ومهم ومفصلي للقضاء على ثقافة التطرف.