النشأة و الموطن


صادف يوم التاسع من كانون الثاني/ يناير لعام2002، الذكرى الخامسة لرحيل المفكر السعودي الثائر عبدالله بن علي القصيمي، الذي يُصنف على أنه حامل لواء الليبراليين العرب، وقائدهم في معركة حامية الوطيس، كان طرفها الأول، وقد جاوزت بسنواتها وهو يخوضها حرب البسوس، فما وهن ولا استكان، بل واصل الطريق بين آكام من الردود، تلقاها بدايةً من علماء الأزهر الذين علموه ودرسوه، فتمرد عليهم، وكشف العوار لديهم، ثم جاءته الصفعة من النجف الأشرف، فتلقاها كالبلسم، وكان قد أوجعهم ضرباً، ثم كانت ثالثة الأثافي عندما تلقاها من السلفيين، وهو الذي ولد من رحمهم، ونشأ في معقل من معاقل التعليم الديني المتشدد لديهم، وهو ابنهم الذي أفرحهم، فتوجوه ورجوه لمستقبل الأيام ذخراً، وفاخروا به الأمم، إلا أنه سرعان ما نكص عليهم، فهجوه ورموه بالسباب والسهام، التي تكسرت على جسده الضئيل النحيل، وما أصابت عقله التأملي الحارق، بل عاش مكابراً لا يقول إلا ما يعتقده، حتى وإن خالف الجميع، عاش شموخ المفكر وكبرياء المتأمل الناقد، فكان نقطة انعطاف وعلامة بارزة في فكرنا العربي الحديث، تناول عطاءه الفكري، إن سلباً أو إيجاباً، مدحاً أو قدحاً، علماء ومفكرون ومثقفون، يُشار إليهم بالبنان، على خارطة الفكر العربي الحديث، فكان القصيمي وكانت حصيلة الرحلة الطويلة، التي لا تزال هناك الكثيرُ من الأسرار تلفها، ولربما حفظها معه فواراها الثرى.
"إيلاف" تابعت مسار الرحلة بدءً من مسقط الرأس وسقط اللوى، حيثُ "خب الحلوة" الغافي في أحضان الرمال غربي مدينة بريدة في نجد بالسعودية، وانتهاءً بزيارة مشفاه الأخير الكائن في مصر الجديدة بقاهرة المعز، ووقوفاً عند "جامع رابعة العدوية" حيثُ شيعت الجنازة، وحيثُ ووريت في مقابر باب الوزير في مصر،
مروراً بالعديد من أصدقائه ومعارفه وبعض من أولئك الذين سنحت لهم الفرصة للجلوس معه والتحدث إليه ومناقشته، عندما كان في القاهرة أو لبنان، كما حاورت" إيلاف" أبنائه وممرضته التي أشرفت على علاجه قبل رحيله، فكان هذا الملف الذي تقدمه" إيلاف" في ذكرى رحيله الخامسة، لتذكر العالم العربي، وقد نقدهم وأوجعهم، نقد المحب الوامق، بذلك المفكر الذي وصمهم ذات مرة بأنهم " ظاهرة صوتية" لكنهم خيبوا ظنه، إذ خفت صوتهم فلم يرثوه ولم يقفوا على مسار رحلته فيتتبعوها!!


المولد والنشأة !!

ولد الشيخ عبدالله القصيمي في عام 1907م تقريباً في " خب الحلوة" الواقع إلى الغرب من مدينة بريدة النجدية في المملكة العربية السعودية.
والخبوب: "جمع خب " وتعني تلك القرى القابعة داخل الرمال والمنتشرة حول مدينة بريدة التي كانت ولا تزال تمثل أهم وأبرز معاقل التعليم الديني المتشدد، إذ لا يزال العديد من أبنائها من طلبة العلم الشرعي من يرفض إلى وقتنا الحاضر كثيراً من النظريات العلمية الفلكية والجغرافية، كما أنه يرفض الأخذ بمظاهر الحضارة والتمدن .
جاء مولد عبدالله القصيمي في " خب الحلوة" ليمثل نقطة انعطاف مهمة في تاريخ تلك القرية الغافية لقرون والتي كانت مجهولة حتى من أبناء المدن المجاورة، شأنها بذلك شأن العشرات من الخبوب والقرى المحيطة بمدينة بريدة والتي لا تزال مجهولة وغير معروفة إلى اليوم هذا، لذلك نقل ميلاد القصيمي تلك القرية لتحتل مكانةً بارزة في كثير من الحوارات الفكرية التي أشعلها القصيمي على امتداد وطننا العربي، كما أنها حظيت بزيارات عدد من المثقفين والمفكرين الذين وقفوا على أطلالها، وكان لـ " إيلاف " أن تقوم بجولة داخل خب الحلوة وتقف على أطلاله المتهدمة التي لا شك أن القصيمي قد خرج من معطفها، كما وقفت إيلاف تحت ظلال تلك النخيل الباسقات التي تكاد تغطي تلك القرية، والتقطت كاميرا " إيلاف " صوراً لتلك القرية .
والد عبدالله القصيمي هو الشيخ علي الصعيدي، الذي قدم من حائل واستوطن خب الحلوة والذي عرف عنه تشدده الديني الصارم، والذي لم يكفه ما تلقاه من تعاليم دينية في مدينة بريدة لينتقل إلى الشارقة للاستزادة من العلوم الشرعية وللتجارة، أما والدة الشيخ عبدالله القصيمي فهي وفقاً لرواية الدكتور فيصل بن عبدالله القصيمي السيدة موضي الرميح ، التي أنفصل عنها زوجها بعد ميلاد أبنه عبدالله بأربع سنوات تقريباً، ليدعها وطفلها مهاجراً إلى الشارقة، ولكنها سرعان ما ارتبطت برجل آخر من عائلة " الحصيني " المقيمة في قرية "الشقة " المجاورة لخب الحلوة، ويذكر الدكتور فيصل القصيمي أن لديه ثلاثة أعمام من أسرة الحصيني، قدموا إلى مدينة الرياض، واستوطنوها، ولا يوجد منهم أحد اليوم، ولهم أولاد وأحفاد، ويرتبط الشيخ عبدالله القصيمي بروابط أسرية مع عدد من الأسر النجدية كأسرة المزيني والمسلم والحصيني والجميعة، وقد ذكر المؤرخ السعودي عبدالرحمن الرويشد لـ" إيلاف" أن الشيخ ابن جميعة الذي يعمل لدى الملك عبدالعزيز هو عم الشيخ عبدالله القصيمي، وقد هاتفت "إيلاف" المؤرخ إبراهيم المسلم لسؤاله عن مدى الصلة والقرابة بين الأسرتين الكريمتين فقال: تجمعنا قرابة وصلة وخؤولة! وهذه المعلومات تنشر لأول مرة لأنها معلومات لم يكن القصيمي يفصح بها لكل من التقاه من أدباء وصحافيين وباحثين، كما يقول بذلك أصدقاؤه من أنه لم يكن يتحدث بشؤون الخاصة إطلاقاً، كما أن الشيخ علي الصعيدي قد تزوج بامرأة من الشارقة ومن عمان وأنجب أولاداً هناك، ويذكر الدكتور فيصل القصيمي أنه على اتصال دائم بأبناء عمه في الشارقة ويزورونه بالرياض باستمرار.


أصول أسرة القصيمي

من المسلم به أن القصيمي ينتمي إلى أسرة "الصعيدي" وهي أسرة ضاربة بعمق في نجد ومنتشرة بين منطقتي حائل والقصيم، ولكن من أين جاءت التسمية بالصعيدي؟
في الوقت الذي يرى فيه الأستاذ عبدالرحمن البطحي "مؤرخ مقيم في عنيزة بالقصيم" أن أحد أجداد الأسرة كان يعمل بالعقيلات بين مصر ونجد قبل قرون، فنسب إلى المنطقة التي كان يذهب إليها متاجراً، وهذه عادة منتشرة في العديد من المدن النجدية، ويؤيده في ذلك الأستاذ الباحث يعقوب الرشيد والمؤرخ إبراهيم المسلم، إلا أن الدكتور فيصل القصيمي يروي لـ "إيلاف" روايتين حول سبب التسمية بالقصيمي، فإضافةً إلى الرواية الأولى يطرح رأياً آخر وهو أنه ربما يكون جد الأسرة بالفعل قد قدم من الصعيد المصري، واستقر في نجد، إلا أنه يذكر أن أسرة الصعيدي في حائل وبريدة يلتقون في جدٍ جامع لهم، إلا أن الأستاذ إبراهيم عبدالرحمن ( محامي مصري وصديق مقرب جدا من القصيمي) ينكر الرواية الأخيرة، ويذكر أن أول من قال بها هو صلاح الدين المنجد في رده على القصيمي، وكان هدف المنجد كما يذكر المحامي عبدالرحمن هو تبرئة الساحة النجدية من القصيمي!! ويذكر المحامي عبدالرحمن أن فكرة المنجد قد لاقت قبولاً ورواجاً داخل السعودية، إلا أنه يستطرد قائلاً : أن الشيخ حمد الجاسر قد بحث المسألة وتوصل إلى نتيجة وهي أن أصول القصيمي من نجد وأن أحد أجداده قد سافر إلى مصر وعاد مرةً ثانية إلى نجد فعرف بلقب الصعيدي!.
ورداً على سؤال " إيلاف" للمحامي عبدالرحمن الذي صحب القصيمي مدة خمسين عاماً من أن القصيمي لا بد وأن يكون قد تحدث معه في هذه المسألة خلال هذه المدة الزمنية الطويلة ، قال : أبداً لم يحدث أن تحدث معي الشيخ عبدالله في هذه المسألة ولا غيرها، لأنه كان يرفض دائماً الحديث عن كل مسائله الشخصية!.
" إيلاف" رغم اعتزازها بصعيد مصر كجزء من أرض العروبة والإسلام، إلا أنها لا ترى أن مجرد النسبة إلى هذا الإقليم أو ذاك سبباً قاطعاً في أن يكون هذا الشخص من تلك المنطقة أو ذاك الإقليم، والدليل أن هناك العديد من الأسر النجدية منسوبةً إلى أقاليم خارج الجزيرة العربية فهناك العماني والتركي والشامي والهندي والرومي والمصري واليماني وغيرها كثير، وفي الوقت الذي لا يرى الدكتور فيصل القصيمي أية إشكالية في أن يكون جد الأسرة قد قدم بالفعل من صعيد مصر، فالأمر سيان لديه، إلا أن إيلاف ترى وجوب حشد الأدلة القاطعة، لأن مجرد الانتساب وحده لا يكفي ليكون دليلاً قاطعاً.
نشأ القصيمي فيما بين " خب الحلوة" و " الشقة" في ظروف سيئة للغاية، فإضافةً إلى فقده لحنان والديه، فقد كانت الأحوال المعيشية سيئة جداً، الأمر الذي دعاه أن يغادر قريته إلى الأبد!! وهو في سن العاشرة من عمره، وفي الوقت الذي يرى فيه البعض أن قرار المغادرة قد أتخذه الفتى بنفسه هروباً من تلك الأوضاع الصعبة يرى الدكتور فيصل القصيمي أن أخوال الشيخ عبدالله هم الذين دفعوه إلى الهجرة بحثاً عن الرزق، وأصروا على مغادرته أمام إصرار والدته، وكانت حجتهم أن يبحث عن أبيه ليطعمه ويكسوه بعد أن ضاقت بهم السبل في تلك الظروف المعيشية السيئة! ركب الفتى عبدالله القصيمي المخاطر مع أول قافلة اتجهت إلى الرياض بعد اتخاذه للقرار الخطير، الذي قاده إلى رحلة طويلة تنقل فيها بين العديد من الأقطار العربية، فما بين مولده في " خب الحلوة" إلى مدفنه في مقابر باب الوزير بالقاهرة رحلة من البحث الطويل المعيشي بدايةً ثم الفكري، الذي أصبح واحداً من أبرز فاعليه على مستوى الوطن العربي .
في الرياض حيثُ درس القصيمي على الشيخ سعد بن عتيق، تعرف إلى وفد من الشارقة جاء لزيارة الرياض، وكانت المصادفة أن رئيس الوفد صديق لوالده ويعرفه تمام المعرفة، فلاحت في أفقه بوادر أمل في لقاء أبيه، وهذا ماتم على ساحل خليج عمان، إلا أن الدهشة أصابت الفتى الذي كان يتطلع ليس إلى مقابلة والده فحسب، بل إلى ذلك الحنان الذي حُرم منه عشر سنوات، كانت المفاجأة أن والده الذي كان يعمل تاجراً في اللؤلؤ ومتشدداً في تفسيره لكثير من تعاليم الدين الإسلامي قد قابله بشيء من الجفوة والقسوة وفرض عليه أسلوباً في التربية غاية في القسوة.
هذا اللقاء الجاف لا بد وان يكون له تأثيره اللاحق على حياة القصيمي، يقول القصيمي واصفاً ذلك اللقاء في إحدى رسائله التي بعث بها إلى الأستاذ أحمد السباعي( كانت صدمة قاسية لأكثر وأبعد من حساب، لقد وجدت والدي متديناً متعصباً بلا حدود، لقد حوله الدين والتدين إلى فظاظة أو حول هو الدين والتدين إلى فظاظة .. لقد جاء فظاً بالتفاسير والأسباب التي جاء بها الدين وحاول أن يبدو كذلك ولا يراه رجل دين وداعية صادقاً إلا بقدر ما يجد فيه من العبوس والفظاظة .. ) .
التحق القصيمي في مدرسة الشيخ علي المحمود، ثم توفي والده عام 1922م فتحرر من تلك القيود التي كبل بها وانطلق يواصل تعليمه، فأعجب به التاجر عبدالعزيز الراشد الذي أخذه معه إلى العراق والهند وسوريا، تعلم القصيمي بدايةً في مدرسة الشيخ أمين الشنقيطي في الزبير، ويذكر الأستاذ يعقوب الرشيد أنه التحق بالمدرسة الرحمانية بالزبير، ثم انتقل إلى الهند ومكث بها عامين تعلم في إحدى المدارس هناك اللغة العربية والأحاديث النبوية وأسس الشريعة الإسلامية، ثم عاد إلى العراق والتحق بالمدرسة الكاظمية ثم انصرف عنها إلى دمشق ثم إلى القاهرة التي شهدت الميلاد الحقيقي للقصيمي.


ماسبب التسمية بالقصيمي ؟!!

يرى الأستاذ عبدالرحمن البطحي أن هناك سبباً وراء التسمية بالقصيمي، وهو أن القصيمي عندما التحق بالأزهر ، كان الأزهر موزعاً إلى أروقة يختص كل رواق بناحية من نواحي العالم الإسلامي، فهناك الرواق العراقي ورواق المغاربة والرواق الشامي والحجازي وغيرها، وحيثُ لا يوجد آنذاك ما يسمى بالرواق النجدي ، فقد سألت اللجنة الموكلة بتوزيع الطلبة على الأروقة عبدالله القصيمي عن منطقته التي جاء منها ، فقال: أنا من نجد!! فقررت اللجنة أن تضمه إلى رواق العراق لقربه جغرافياً من منطقة نجد، فانظم إلى العراقيين في رواقهم، فوجده العراقيون مختلفاً عنهم فسألوه عن منطقته التي جاء منها، فأجابهم بأنه من القصيم بنجد!! فسماه العراقيون بالقصيمي فذهبت علماً عليه داخل الأزهر، فاتخذها الشيخ عبدالله رمزاً أدبياً بعد ذلك ثم أصبحت اسماً له ولأولاده من بعده.
يرى الدكتور فيصل القصيمي أنه من المحتمل أن التسمية بالقصيمي قد جاءت من العراقيين عندما كان والده يدرس في العراق، فاتخذها والده رمزاً أدبياً بعد ذلك ثم اسماً

القصيمي في الأزهر !!

في عام 1927 التحق القصيمي بجامعة الأزهر الشريف، وعلى الرغم مما تحتله الجامعة من مكانة علمية متميزة، كونها أعلى مؤسسة دينية في العالم الإسلامي، إلا أنها خيبت آمال القصيمي، إذ كانت على خلاف ما كان يتصوره القصيمي في فكره عن هذه الجامعة قبل التحاقه بها، وكان الأزهر يواجه آنذاك هجوماً من عدد من المفكرين المصريين وعلى رأسهم الشيخ محمد رشيد رضا، الذي كتب عدة مرات في مجلته المنار عن الأزهر وأن علماءه غير قادرين على تعليم الإسلام الحقيقي ولا على تفسير نصوصه أو فهمها، إضافةً إلى ذلك كان الأزهر كما يقول يورغن فازلا كرة تتقاذفها القوى الوطنية الليبرالية والقوى الملكية المحافظة وذلك حول دور الأزهر في النظام التعليمي المصري، وفي ظل هذه الخصومات أكمل القصيمي دراسته في الأزهر، ثم اتخذ موقفاً في الخلاف الذي نشب حول الوهابية، وكان العالم الأزهري الشيخ يوسف الدجوي قد كتب عدة مقالات يدافع فيها عن شعائر تكريم الأولياء ضمنها حججه تجاه الآراء الوهابية، منها مقالته الشهيرة"التوسل وجهالة الوهابيين" المنشورة في مجلة"نور الإسلام" عام1931، لذلك أصدر القصيمي أول كتاب له وهو" البروق النجدية في اكتساح الظلمات الدجوية" نقض فيه القصيمي حجج الشيخ الدجوي من خلال استعراض مقولات علماء الحنابلة كابن قدامة والشوكاني وغيرهما.


الهجوم على علماء الأزهر

كان لهذا الكتاب ردة فعل عنيفة لدى علماء الأزهر، الذين قرروا فصل القصيمي من الأزهر، وكان ذلك عام 1931 ، لذلك شن القصيمي هجومه على علماء الأزهر من خلال كتبه التالية لكتابه السابق، وهي " شيوخ الأزهر والزيادة في الإسلام" وكتاب " الفصل الحاسم بين الوهابيين ومخالفيهم" ووقف الشيخ رشيد رضا إلى جانب القصيمي من خلال مراجعته لكتاب " البروق" في مجلته المنار وقال: إن القصيمي اكتسح العلماء بمعرفته الواسعة وأخجلهم، هذه المعركة التي خاضها القصيمي مع علماء الأزهر أكسبته شعبية واسعة في أوساط حركات التجديد الإسلامية.
في عام 1936م اعترفت الحكومة المصرية رسمياً بالمملكة العربية السعودية، فأصدر القصيمي كتابه الشهير " الثورة الوهابية" وكان هدفه كما يقول فازلا الدعوة إلى تأييد الدولة السعودية الفتية، وتحسين صورة الحركة الوهابية أمام الرأي العام المصري، وقد ذكر القصيمي في كتابه أن العالم الإسلامي قد وجد في شخص" ابن سعود" رجلاً يمكن أن يساعده على استعادة المكانة التي فقدها خلال القرون الماضية، وعلى العودة إلى الأسس الحقيقة لدينه، وكامتداد آخر للدفاع عن الحركة السلفية في نجد، رد القصيمي على كتاب الكاتب السوري محسن الأمين العاملي المعنون بـ"كشف الارتياب في أتباع محمد بن عبدالوهاب"، جاء رد القصيمي صاعقاً معززاً مكانته كمجادل ومحاور من الطراز الرفيع، إذ جمع رده في جزأين كبيرين حويا أكثر من 1600 صفحة، وكان عنوان الكتاب" الصراع بين الإسلام والوثنية" يقول عبدالله عبدالجبار في كتابه" التيارات الأدبية" أن أحد علماء نجد قال: أن القصيمي دفع مهر الجنة ولن يضيره ما يعمل بعد ذلك، ولا نجد رأساً يطاول رأسه إلا رأس ابن تيمية!.


هذه هي الاغلال

بعد ذلك انتقل القصيمي بفكره من المدافع المنافح عن الوهابية إلى طور التحرر والشك في الموروثات، وهذه المرحلة يصفها الذين تناولوا القصيمي بالدراسة والتحليل بالطور الثاني للقصيمي أو الطريق إلى الانشقاق، إذ بدا مرحلته هذه بكتابه الشهير" هذه هي الأغلال" الذي صدر عام 1946، وأهداه للملك عبدالعزيز، وهو يتحدث فيه عن القيود والعوائق التي تقف ضد تقدم العالم الإسلامي، حسب رأيه، وهذا الكتاب على ما حواه من آراء وأفكار، جعلت القصيمي يُصنف على انه متمرد على السلفية، التي كان مدافعاً عنها محباً لها، وفي الوقت الذي وجد فيه هذا الكتاب رواجاً كبيراً داخل أوساط التنويريين والمثقفين وتناوله العديد مهم بالدراسة والتقريظ، إذ كتب عنه شيخ الأزهر الشيخ حسن القياتي مقالة في المقتطف، قال فيها( شكل ابن خلدون رائد الاشتراكيين طليعة معسكر الإصلاح في الشرق، وشكل الافغاني وتلميذه محمد عبدة والكواكبي جوانبه، أما القصيمي فهو قلبه! ) كما رأى القياتي أن هذا الكتاب يصلح لأن يكون برنامجاً للتعليم الوطني وخطة ناجحة للإصلاح، كما كتب عنه الأستاذ عباس محمود العقاد في الصفحة الأولى من مجلة الرسالة، وغيرهم كثير، إلا أن هذا الكتاب تعرض للنقد الشديد من قبل علماء نجد، إذ أصدر علامة القصيم الشيخ عبدالرحمن بن سعدي كتاباً اسماه" تنزيه الدين ورجاله مما افتراه القصيمي في اغلاله" ثم أصدر عبدالله بن يابس وهو صديق للقصيمي وصحبه في سفره إلى القاهرة، كتاباً سماه " الرد القويم على ملحد القصيم" وتوالت المقالات والكتب التي تناولت الكتاب، والتي أفردت "إيلاف" قائمة بالتعريف بها وبمكان نشرها وتاريخ النشر، ونتيجة للصدمة التي أحدثها الكتاب داخل الجزيرة العربية، يذكر عبدالله عبدالجبار في كتابه" التيارات الأدبية" أن أحد الوجهاء في السعودية قال بغضب: لن يغفر الله للقصيمي، أما تلامذته فقد يتوب عليهم لأنه مغرر بهم!! .

حلوان.. ثم السجن والنفي

في عام1950 انتقل القصيمي من القاهرة إلى مدينة حلوان، جنوب القاهرة، ورداً على سؤال وجهته " إيلاف" للمحامي إبراهيم عبدالرحمن عن سبب انتقاله إلى حلوان، وهل كان انتقاله من القاهرة إلى حلوان خشيةً على نفسه من أية محاولة لقتله! سيما وقد تعرض لمحاولة اغتيال، قال المحامي : هذا غير صحيح، فالقصيمي لا يخاف من أحد، فقد كان انتقاله بحكم أن حلوان ضاحية هادئة وتعتبر من المصحات، وأسعارها معقولة جداً، لا سيما وأن القصيمي سكن في بداية أمره بأحياء الحسين المكتظ بالسكان، لذا فأنا اعتقد والكلام للمحامي أن القصيمي قرر الذهاب إلى حلوان بحثاً عن الهدوء والراحة والتفرغ للكتابة والتأليف، وهذا ماكان بالفعل، ويعزّز المحامي إبراهيم كلامه في أن القصيمي قد تعرض لثلاث محاولات اغتيال، وعلى علمه بهن فلم يتوقف ولم يعتزل الناس، وحينما طلبت منه "إيلاف" هذه المواقف الثلاثة، قال: الأول في القاهرة والثاني في السعودية والأخير في لبنان، عن موقف القاهرة، قال المحامي إبراهيم( .. كان القصيمي يتردد على أحد المقاهي في حي السيدة زينب، ولاحظ أن أحد الشباب يتبعه دائماً ويراقب تحركاته، تعرف القصيمي عليه، ووجده شاباً سعودياً جاء من السعودية خصيصاً لقتله، بحجة أن العلماء أفتوا هناك بجواز قتله لأنه خرج عن الإسلام في كتابه الأغلال، وقال له الشاب: لا أصدق أن أحداً مثلك يقتل، بعد أن سمعت كلامك، ومع أن القصيمي علم بهدف هذا الشاب فلم يتوقف أبداً عن الذهاب إلى المقهى للمناقشة والمحاورة، سأل القصيمي الشاب بعد ذلك عن الذين بعثوه، بماذا وعدوه؟!! قال الشاب للقصيمي: وعدوني بالجنة!! قال القصيمي له: لماذا يؤثرونك على أنفسهم بالجنة، لو كانوا يعلمون أن قتلي طريقاً لهم إلى الجنة بالمفروض أن يسبقوك إلىّ!، بعد ذلك اختفى الشاب نهائياً.. ).
في حلوان كان سكن القصيمي بجوار بعثة الطلبة اليمنيين، فتعرف إليهم وكان يلتقي بهم في الحديقة اليابانية، وكان منهم اللواء عبدالله جزيلان، مفجر ثورة اليمن عام 1962م ونائب رئيس الجمهورية اليمنية سابقاً، والذي التقت به "إيلاف" وسجلت منه شهادته عن القصيمي، وكذلك الأستاذ حسن السحولي، سفير اليمن في مصر، والذي التقت به "إيلاف" وسجلت منه شهادته عن القصيمي، وغيرهم كثير من الذين أصبحوا من القيادات البارزة في اليمن، أثناء ذلك تلقى الإمام أحمد رسالةً تفيد بتأثر هؤلاء الطلبة بفكر القصيمي، لذلك ضغط الإمام أحمد، على صلاح سالم في طرد القصيمي من مصر، فاعتقل القصيمي وزج به في السجن، ثم نفي إلى لبنان.


القصيمي في لبنان

يتحدث المحامي إبراهيم عبدالرحمن لـ"إيلاف" عن أول موقف حدث للقصيمي بعد نزوله مطار بيروت، يقول الأستاذ إبراهيم( ..تعرض الشيخ عبدالله لموقف ظل يرويه لسنوات طوال بكل مرارة وحسرة، وذلك أنه عندما نزل من الطائرة في مطار بيروت، كان لا يعلم في أي مكان هو!! فسأل وأشار عليه أحد العاملين أن يركب مع حافلة الشركة التي تنقل الركاب مجاناً إلى وسط المدينة، ولم يكن في جيبه قرشاً واحداً، فركب مع الحافلة التي دارت بكل الركاب وأنزلتهم، وبقي هو وحيداً، فسأله السائق: إلى أين أنت ذاهب؟ قال: لا أعلم!! قال له السائق: هل تعرف أحداً؟ قال القصيمي: لا!! فسأله السائق: وما جنسيتك؟ فقال: سعودي، وكان السائق لطيفاً معه إلى أبعد الحدود، فاقترح عليه أن يأخذه إلى السفارة السعودية، فرحب القصيمي بالفكرة، سيما وقد تذكر أن أحد معارفه يعمل بالسفارة، فذهب به السائق، ولكم كانت الصدمة كبيرة عندما وجدا السفارة مغلقة، لأن مجيئه كان في يوم عطلة‍‍!! وبعد طرق خرج أحد المستخدمين، فسألوه عن ذلك الشخص، فقال: إنه يقضي عطلته في جبل لبنان! عندئذٍ تطوع السائق بإيصاله إلى محطة الركاب في وسط البلد، ليأخذ تاكسي ينقله إلى هناك، ويدفع صديقه أجرة التاكسي، وفعلاً ذهب معه إلى المحطة وأخذ تاكسي وذهب مع السائق إلى الجبل، ولكم كانت المفاجأة عندما قال موظفو الفندق: أن هذا الرجل خرج قبل قليل!! ولكنه سيعود في المساء، وقد تكفل الفندق بدفع أجرة التاكسي وأخذها من صديق القصيمي بعد عودته إلى الفندق، عاد هذا الرجل ووجد القصيمي ينتظره، فكان اللقاء!!.. ) .
على الرغم من هذا الموقف الحزين الذي تعرض له القصيمي في أول يوم من أيامه في بيروت، إلا أن أيامه بعد ذلك كانت رخاءً له من حيث النشر والحضور الفاعل في الأوساط الثقافية في بيروت، إذ عرفه هذا الرجل( علمت إيلاف أن اسمه صالح الحميدي ) على الناشر اللبناني قدري قلعجي، الذي أفرد له الصفحات في مجلته " الحرية" كمت تعرف إلى الأستاذ سهيل إدريس صاحب مجلة " الآداب" والتي اشرعت أبوابها للقصيمي ليكتب، كما تعرف إلى العديد من الشخصيات الأدبية والفكرية والقيادات السياسية في بيروت، ذكر أصدقائه ومعارفه الذين التقت بهم" إيلاف" أن عدد أصدقائه في بيروت لا يحصر، وذكروا منهم: الأستاذ أنسي الحاج و السياسي منح الصلح ، والناشر رياض الريس، والكاتب طلال سلمان ، والكاتب محمد بعلبك والكاتب جورج جرداق والكاتب زهير مارديني والسياسي كمال جنبلاط وغيرهم العشرات.
يذكر المحامي إبراهيم عبدالرحمن أن القصيمي تعرض لمحاولة اغتيال في بيروت، يرويها لـ" إيلاف" قائلاً ( .. فوجئ القصيمي بصديقه الرئيس محسن العيني، رئيس وزراء اليمن السابق، يطرق عليه الباب في المساء، وقال له: لقد جئتُ لك من دمشق خصيصاً، وقد علمنا في دمشق أن هناك محاولة لاغتيالك، من قبل بعض الجماعات المتشددة!! وقد جئتُ أبلغك رسمياً واطلب منك أن تأتي معي إلى دمشق، وسوريا مستعدة لحمايتك وتكريمك!! فرفض القصيمي ذلك، ويصيف المحامي قائلاً
( .. فوجئ القصيمي في الصباح وإذا بأحد ضباط الأمن يهاتفه ويطلب منه أن يلتقي به، فرحب به القصيمي، وقال الضابط: أن المخابرات اللبنانية اكتشفت مؤامرة لقتلك، وأنها لاتستطيع حمايتك، كما أن لبنان غير قادرة على أن تتحمل قضية اغتيالك! وعليك أن تغادر لبنان، فذهب القصيمي إلى كمال جنبلاط، وهو صديق له وداعمه، وقال له كمال: لا بد أن تغادر لبنان، إننا لن نستطيع أن نمنع ذلك عنك، فقال القصيمي لكمال جنبلاط مقولته الشهيرة( إنني أجبن عن أن أكون جباناً، أنا لا استطيع أن أهرب، بل سأبقى وأواجه مصيري وعلى مسئوليتي) إلا ان أجهزة الأمن ضممت على مغادرته لبنان، حماية لسمعة لبنان، من أن يغتال فيها!! ) .
بعد ذلك سمحت الحكومة المصرية بعودته إلى القاهرة، فعاد واستقر فيها، واخذ يتنقل بين القاهرة وبيروت، وبذلك يكون القصيمي قد دخل عهداً جديداً سماه فازلا بـ( العودة إلى الحياة العامة) وتوالت إصدارات القصيمي بعد ذلك، بدءً من كتابه" العالم ليس عقلاً" والتي كان يطبعها في بيروت، وأصبح للقصيمي حضوره الوهاج في الأوساط اللبنانية، بعد توالي إصداراته، وعندما ساءت الأحوال في لبنان، وبعد تعرض قدري قلعجي، كما يقول المحامي إبراهيم عبدالرحمن إلى ضغوط رهيبة وهدد بحرق مكتبته، وجد القصيمي صعوبة في متابعة إصداراته من لبنان، فاتجه إلى باريس، فكان أول كتاب يصدره من باريس هو كتاب" العرب ظاهرة صوتية" وبقي بعد ذلك في منزله في روضة المنيل بشارع عبدالعزيز آل سعود، يستقبل زواره وضيوفه، في ندوته الأسبوعية .


عن إيلاف .................................. يتبع نظرا لطول الموضوع