ما من عمل أحب إلى الله وأكثر جدوى في التقرب إليه وفي الفوز في الدارين الدنيا والآخرة كطلب العلم وتعليمه، وقد سئل عالم جليل من علماء الشام: إنه ان كان ما تبقى من عمرك ساعة واحدة فما تفعله فيها؟ فلم يجب بكثرة صلاة أو تلاوة للقرآن الكريم أو دعاء، وإنما أجاب: طلب العلم.

والمأثورات عن النبي الأعظم عليه الصلاة والسلام في التشديد على اهمية طلب العلم معروفة عند الجميع، فالعالم يفضل عند الله على ألف عابد، والملائكة تضع اجنحتها احتفاء بطالب العلم، ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً الى الجنة.

ولعلي لا أجانب الحقيقة إن قلت ان الفرصة الضائعة لطلب العلم في حياتنا وحياة ابنائنا هي فرصة التعليم في الصغر، حيث ملنا في العقود الاخيرة الى المبالغة في الرفق بالأولاد، فلم ندفع بهم الى الاجتهاد في طلب العلم، وقد أكدت الدراسات الحديثة انه ما من عمر اكثر نجوعاً وجدوى في الحفظ والفهم وتعليم ما نظنه معقداً وحتى تعلم اللغات الاجنبية كالسنوات الأولى من حياة الاطفال.

اولادنا اليوم يمضون اوقاتهم بين مدارس تقدم مناهج مسطحة وفقيرة في معانيها ومبانيها، وتلفزيون يفسد أضعاف ما يصلح ويضر أضعاف ما ينفع، ثم لهو ما يسمى الواقع الافتراضي من ألعاب الكمبيوتر وغيره، وهي ألعاب تقدم للطفل العدوان والحرص على الإنجاز الفردي الأناني، مع مهارة وحيدة ومحدودة هي مهارة التحكم بحركات الأصابع الدقيقة.

كان سلفنا يحفظون القرآن أو معظمه في الكتاب قبل عمر العشر سنوات، وكانوا يدرسون في المدارس الابتدائية والاعدادية بخلاء الجاحظ وكليلة ودمنة لابن المقفع ونصوصاً من العقد الفريد، والمستظرف، وعيون الأخبار، والمحاسن والمساوئ، وكانوا يتعلمون في المساجد وفي حلقاتها المفتوحة علوم النحو والفقه والعقيدة والتفسير والتزكية وغيرها وهؤلاء هم الذين بنوا ما نهدمه اليوم، وجمعوا ما نبدده اليوم، من العمران المادي والاجتماعي الى الأموال العامة والخاصة.

إن العلم في النهاية وحسب تصورنا الاسلامي هو مجموعة من القيم والمعاني والرموز والقدرات، وما نقدمه اليوم لأولادنا بعيد كل البعد عن هذه الأبعاد والمتعلقات ومع احترامنا لورشات التربية ومؤتمراتها الحالية فإن كل جهودها التي بذلتها لا تعادل التتلمذ على حصير الكتاب بحضرة الشيخ وعصاه، وهذا باعتراف لبعض من كبار المربين.

منذ سنتين اطلق الصادق النهيوم سؤاله “من سرق الجامع؟!” كجهاز تربوي تعليمي وكمؤسسة ديمقراطية تشمل أبسط الناس، ونحن اليوم نتساءل: من سرق الأبوين ويتم الاولاد حيث لا ينالون حظوظهم من الرعاية والتربية والقدوة الحسنة؟ ومن سرق المدرسة التي فرغت من محتواها الثمين وتحولت الى أمكنة لتفريخ صغار العقول وفقراء القلوب؟ ومن يحرص على إغراق اولادنا بسخف الدنيا وتفاهات العالم وزرع كل رذيلة أو فساد ممكن في عقولهم وضمائرهم؟

إن ما يتحدث عنه علماء النفس من أخطار وأضرار ألعاب الواقع الافتراضي تشيب له الرؤوس وينبئ بكوارث عظيمة مقبلة في حياة الأجيال الحاضرة، ويكفي ان نقول: إن الطفل في ألعاب الواقع الافتراضي يدخل داخل اللعبة ويتقمص شخصية فيها، ويقوم بكل أفعالها ويحقق كل إنجازاتها بغض النظر عن مشروعية هذه الانجازات أو نبلها أو أخلاقياتها، وتنبئ التكنولوجيا بجيل جديد من الألعاب يستطيع فيه الطفل ان “يحس” و”يلمس” و”يتذوق” و”يشم” ما يحدث في اللعبة، ولنا أن نقدر حجم الكوارث الممكنة في ألعاب كهذه عندما تكون مسؤولية صنعها على مجرد التجار الطامعين في الربح.

لم تستطع حتى الآن جهود المخلصين ان تنتج أعمالاً فنية أو ألعاباً تحمل قيماً ومنافع نبيلة مع إغرائها للطفل في الوقت نفسه، وهذا بالطبع له ما يفسره لأن ما ينتجه الغرب من أعمال وألعاب خاصة بالاطفال هو نتيجة خبرات متراكمة لعقود من السنين فضلاً عن اتكائها على الأهواء وتحريك غرائز العدوان والتملك والانجاز الفردي وتحقيق الذات الأنانية، وهي امور اكثر إغراءً من معاني الإيثار والإنجاز الجماعي وربما التضحية من أجل الآخر أو الوطن أو الدين.

لكن ما يجدر طرحه الآن هو: أين العلم من كل هذا؟ وقد رأينا ان “دماغ الطفل” و”سنوات الطفولة” هي خير ما يستثمر لتحصيل العلم النافع، اننا في ما يسمى بالتربية الحديثة غلّبنا جانب “العمل” على جانب “العلم” وجانب “الحركة” على جانب “الاستيعاب”، وجانب “الهزل” على جانب “الجد”، وجانب “اللعب” على جانب “التعلم”، ومع ان العمل والحركة والهزل واللعب يمكن ان تستثمر في بناء شخصية عالمة فاضلة إلا أننا آثرنا العبث بالطفولة لأغراض تجارية وربحية بحتة، فاستغللنا “غرائز الاطفال” اكثر من عملنا على “عقول وأخلاق الاطفال” وقدمنا لهم ما يجمع اموالهم دون ان نتنبه الى ما يبني مستقبلهم المنتج والأخلاقي والنبيل.

فإذا كان للتكنولوجيا اليوم ألف باب للدخول بالعلم النافع الى عقول الاطفال، فقد أهملناها جميعاً واخترعنا ألف باب لتربية وتنمية وحوش الأنا في قيعان ذواتهم.

هكذا أراد اصحاب المال والأعمال وما علينا إلا الطاعة ولو كانت مدخلاً إلى نحر مستقبل الأمة والأجيال.