وتتجــــدد أوراق العمــــر
ــــــــــــــــ
كنت اجلس في احدى المرات ، استمتع بوقت اجازتي القصير بعيداً عن صخب الأصدقاء وهلكة ساعات العمل المتلاحقة أستحضر طقوسي بين جدران غرفتي اتأكد أن النوافذ مغلقة جيداً كي لا تتسرب أي ضوضاء أو أصوات مزعجة تنتجها السيارات الكثيرة المارة أسفل العقار ، رغم انها قاربت الواحدة صباحاً لكنك تشعر وكأنها السابعة مساءاً لا أحد ينظر للوقت ، لا يوجد من يهتم بالدقائق التي راحت وانسكبت في بئر الذكريات .
كان كوب القهوة الفرنسي وموسيقى موتسارت وبتهوفن وإيرا بالإضافة لبعض المنتديات التي اواظب على متابعتها هم جليسي المفضل وأنيس وحدتي التي اهرب إليها لأعيد ترتيب اوراقي ولملمة شتات نفسي ومثلما كنت اتصفح الأخبار في شتى المجالات وعلي اختلاف اهتماماتي ، أعود واستقر محاولاً العبث بقلمي على صفحة ورق ، و فجأة انقطع التيار الكهربائي أصبح يحيطني ظلام شديد وسكون أشد لدرجة تشعر وكأنك تسمع صوت الطبيعة عبارة عن ( وش ) يختفي كلما زاد تركيز حاسة السمع عليه. قمت لأحضر شمعة حاولت المرور بين المقاعد المترامية علي الاجناب تخبط وسقط على وجهي جراء اصطدامي بطاولة صغيرة تتوسط الغرفة وكأني لم اكن اعرف إنها هنا رغم انها على حالها هذا منذ خمسة عشر سنة ، انتابني ضيق لحظي واحساس غاضب اشعلت الشمعة ومشيت في هدوء حتى عدت لنفس المكان ثم وضعتها امامي مباشرة فأنا مازلت اريد أن اكتب وما احلى الكتابة في هذا الجو البعيد عن التوتر ، عندما استدرت قليلاً لتستفيم جلستي وجدت الشمعة امامي مباشرة وكأنها تراقب تحركاتي الساكنة تعمقت بالنظر فيها سرحت يوم كانت أمي تعاقبني ومن ثم نظرت يدي اتفحصها وافتش عن تلك العلامة التي مازالت تحفر ظهر يدي ، يوم كنت في السابعة من عمري ، لا اذكر ما فعلته آنذاك لكن اذكر العقاب جيداً .. لسعة بشمعة صغيرة مشتعلة كي لا أكرر خطأئي مرة أخرى ، تسائلت هامساً .. ترى كم شيء حدث بعدها كان يستحق لسعة كتلك .
تنفست بعمق وأنا اتلذذ قهوتي الدافئة ودون ارادة مني استرخيت على المقعد تمددت وعدت ليوم كان عمري سبع سنوات أي حوالي ثلاثة وعشرون عام انقضت ، أوراق كثيرة سقطت ، أصدقاء كانت وضاعت ، شخصيات أثرت فينا ورحلت .. أوجاع حفرت ملامح الوجه العابث وابتسامات بددتها علامات التعجب المفزعة .
لم اتذكر شيء سوى إنني كنت اتعلم كيف اتعامل مع المحيطين بي .. والشغب الذي كنت دائماً احدثه في أي مكان أتواجد به ، وبأحيان كثيرة كنت أشفق على أبي – سراً- في تذمره من افعالي .
تذكرت وقت اعطاني ( جنيه ) لكي اشتري شيئاً من البقال اسفل العقار مازال كل شيء كما هو كل ما تغير أن البقال اصبح سوبر ماركت كبير وأصبح الجنيه بلا قيمة تذكر .. وعندما وصلت للبقال لم أجد ( الجنيه ) معي فما كان مني إلا الهروب والاختباء أفكر بمبرر مقنع لأبي .. ، كيف يضيع مني جنيه بحاله – حته واحدة – كل ما همني وقتها هو التفكير في تجنب ردة فعل أبي واتخيل طريقة تعنيفه لي يدوياً وباللسان ، أستمر هروبي نحو خمس ساعات لم اشعر بمرورهم إلا عندما بدأ النهار يلملم خيوطه معلن الرحيل والليل يحل يأكل بظلامه كل ما تبقى من ضوء ..
خمس ساعات كانت كافية لإحراق قلب أمي والوصول بأبي إلي قمة غضبه وقلقه لا اعرف أين كنت امشي خلال تلك المدة لكني كنت أضيع بالشوارع وأفكر ثم اعود مرة أخرى اراقب ما يحدث عن بعد وفي مرة رأني أحد الصبية ولم يتواني في الصراخ وقال .. أهووو
وكانت هذه الكلمة بمثابة إشارة لكل من هو موجود ليتأهب الجميع في الجري نحوي فوجدت نفسي بالتالي أهرب ، افر بين الطرقات والأزقه الضيقة حتى تمت محاصرتي والإمساك بي ؛ ظللت اصرخ احاول أن اخبرهم بأن أبي سيقتلني ... إن علم بضياع ( الجنيه ) دون جدوى فلا يسمع كلماتي أحد .. حتي تم تسليمي لأبي ولم ينتظر - كعادته – فأقبل مني وابرحني ضرباً ولم يخلصني منه سوى بعض الجيران الحاضرين ثم اقبلت أمي وأخذتني في صدرها وذهبت إلي الشقة ومنها إلي غرفتي .. كانت هي دائماً الوجه الاخر لقسوة أبي نهر حنان عذب لا يحمل داخله أي شوائب أو ضغينه لأحد ... سألتني وعينانا تمتزج بالدموع .. أين كنت .؟
اخبرتها وانا ارتعش من البكاء أن الجنيه ضاع مني وخفت أبي يضربني وظللت افكر ومر الوقت دون أن اشعر .. شعرت بها تخلعني من صدرها وقالت لي بنظرة حادة .. جنيه ايه .. أنا وجدت الجنيه علي الأرض بعد نزولك وتوقعت أنك هترجع مرة تانية وتاخده.. سكتت وتابعت .. أتعلم ما فعلته كيف أثر فينا وأفزعنا ..؟ ثم بدأت ملامحها تتغير واعتلت خطوط الغضب جبينها العريض ، هبطت خدودها المنتفخة فانهارت قطرات الدموع دفعة واحدة ..
وبالطبع أنا لم أفكر في أي شيء من كل هذا فكرت في أصعب الأشياء ، انشغلت بغضب أبي أكثر من تفكيري بالعودة .. ابتسمت ثم انفجرت ضاحكاً . كيف كنت غبي هربت من شيء ظننته مخيف دون تفكير جيد ففعلت على اثر ذلك ما جعلني استحق عقاب غليظ علماً بأنني إن كنت عدت كنت وجدت الجنيه في انتظاري ولم يحدث شيء مما حدث .
سنين كثيرة ظلت تمر امامي احاول أن اتذكر تفاصيل كل عام وارتمي داخله ، أفتش في شهوره عن نفسي من كان معي ومن سقط .. مواقف وأزمات ، ساعات من الجنون وأوقات كثيرة من السقطات .
رغم أن النجاح الذي اتمناه لم يتحقق بعد ، لكن ايضاً لا يمكن أن أصبح إنسان فاشل إلا إن اخترت أن أكون كذلك . صفحات العمر سطورها تشتبك تسفر عن حروف مختلطة بالألم والحب والحنان والعذاب والكذب انطوت واصبحت من الذكريات ، ما كنت أحسبه شراً هو الأن يتضح لي بإنه كان من نفسي ، وما كنت أجمله لأدافع عنه .. سقط وراح وانزوى في ثقوب الأيام ولم تفلح محاولاتي لأنقاده .
اخطأ كثيرة اقترفتها في حق نفسي وفي حق غيري كان النسيان كفيلاً بها أحداث كثيرة مرت ولا أدري هل للعمر علاقة بما وقع من أحداث .؟
اسئلة كثيرة تحاصر رأسي لكن رغم ما مر من العمر مازال هناك بقية فبعض العواقب يمكن أن تتغير مازال من الممكن أن نبث هواء جديد ينعش رئة الحياة المريضة ، وضخ دماء تتحمس الوصول لقلب الدنيا المستسلم . لازلت على استعداد بالمغامرة بكل ما أعرفه في سبيل معرفة ما لا أعرفه مازلت ذلك المشاغب الصغير بملامح أكثر رجولة تتضح بين خيوطه الخبرة والحكمة المستفادة.
اؤمن بان أنا من يختار طريقه ، وما لا اختاره أحبه كما لو كنت قد اخترته .
وفجأة عادت الكهرباء مرة اخرى تبعتها صرخات الأطفال مهللين لعودتها ، ظلت الشمعة مشتعلة توشك على الأنتهاء أصبح ضوئها غير ضروري ، نفخت فيها وأطفأتها وكأني أطفأت أيامي القديمة ، لم يبقى منها سوى الأمل في الغد والثقة باليوم و ذكريات تحيا بالذاكرة ليظل الأمل بوابة لغد مشرق ، وقلم يطوي صفحات العمر في سلام يبحث عن هويته المفقودة .
بقلم
/
عاشق الألم
ماجد علي
.
مواقع النشر (المفضلة)