اذا انكفأت هامتك حزنا وامتلأ صدرك ضيقا وتنكر لك الناس جميعا واغلقوا ابواب الحنين في وجهكِِ فاهرع الى حضنها، اسند رأسك الموجوع على صدرها وبح لها بهمومك وقص عليها حكايات معاناتك، فهي الوحيدة في الوجود التي تحتوي ضعفك برقة الامومة، وتسكب على وجهك حنينها بردا وسلاما ودفئا.
روحها الوارفة ستلملم اشتاتكِِ ويدها المعطاء ستمنحك حنانها بلمسات رحيمة تتحسس وجعك وتتوغل في دهاليز جراحك وتمنحك من عمق احاسيسها بلسما لانفاسك المحترقةِِ واذا اشتبكت معك الدنيا بأسرهاِِ ولم تجد من يصغي اليك وتأنس اليه فاهرع الى واحتها العامرة بالانس والمحبة المخلصة والعليمة بتفاصيل روحكِ فلا احد مثلها في الدنيا يستشعر حزنك ويتألم لشرودك وسأمك بزخم عطائها ووهج احاسيسها وطزاجة سخائها الدائمِِ اعجاز ربانيِِ تقف القلوب حائرة ازاء فك طلاسمه ومعرفة كنهه، ويحار الفكر في سبر اغواره، فالازمنة زاخرة بقصص هذا العطاء الفريد من نوعهِِ والبذل الذي يتنزه تماما عن نقائص الانانية.
الوحيدة التي تعطيك بلا حدود وبدون انتظار مقابل هي امك، ولن تجد مخلوقا في الدنيا مستعدا للتضحية المخلصة سواها.
فرحتك غايتها، ابتسامك انسجام لها، وحتى لو كانت في قمة معاناتها فانها تؤثرك على نفسها وتقدم راحتك على راحتها، وتحبك اكثر من نفسها.
دفعني فضولي لاسأل احدى الامهات الشابات عن كنة مشاعرها نحو ابنها الوحيد فقالت: منذ ان حملت به وانا استأنس بوجوده واشعر انه قطعة من روحي، ولما بدأ يتحرك في داخلي واستشعرت نبضاته، امتلأ قلبي حبا وحنانا، لم اشعر بمثله طيلة حياتي نحو اي من الناس والمخلوقاتِِ ولما أنجبته غمر فؤادي احساس جارف باللهفة عليه، فغدوت اخاف عليه اكثر من خوفي على نفسي، واتلهف على رؤيته، ولا اطيق فراقه، واذا تألم اظلمت الدنيا كلها في وجهي، دمعت عينا الام الشابة وهي تواصل حديثها وكأنها تلقي قصيدة شعر مليئة بالشجن والحنين.
وقالت: 'لوخيرني الخالق العظيم بين أن أمرض أو أصاب بأذى ويسلم ابني لافتديته بذاتي وجعلت روحي هبة لسلامته وأمنه.
كل إنسان في الدنيا قد يعطيك لكنه ينتظر المقابلِِ حتى النبلاء المخلصونِِ الذين جبلوا على الجود والعطاء الإنسانيِ تأتي عليهم أوقات تحن طبائعهم فيها إلى سماع الإشادة والثناءِِ إلا عطاء الأمومة فهو الكرم الأوحد الذي لا يتلمس جزاء ولا شكوراِ.
ومواقف الحياة شاهدة أيضا على أنه لا استثناء لأي من البشر الذين تعاملهم وتعيش معهم وترتبط بهم بعلاقات قويت أوضعفتِِ كبرت أوصغرتِِ لا استثناء لأحد منهم في انتظار مقابل العطاءِِ فجميعهم يعطي ويأخذ ويمنح بانتظار استرداد المقابل.
الأمهات استثناء من قاعدة المصلحة والأخذ بمقابلِِ والبشر الذين نعاملهم ونرتبط بهم بعلاقات قويت أو ضعفت كبرت أو صغرتِِ جميعهم يعطي ويأخذ ويمنح وينتظر استرداد المقابلِِ لكن قلوب أمهاتنا تمنحنا حق اللجوء إلى واحة الصدق وتسند ارتعاشتنا حينما تهزمنا الأزمة، ويعرقل خطواتنا الوهن.
لكن إزاء هبات الأمومة وعطاءاتها أليس من المستغرب تنامي قصص العقوق والإيلام المتعمد لقلوب الحانيات عليناِِ؟ِِ والتنكر للواتي حملننا بجانب نبضات أفئدتهن وأفنين أعمارهن لأجلنا؟
كلنا مقصرون وتلف أرواحنا الدنيا اللاهثةِِ وتطحن عظام هدأتنا رحى الأيامِِ وإزاء دوامة الأزمنة ننسى واجبنا إزاء أمهاتناِِ وهن بالفعل يرضين بالقليل من عطائناِِ ويبتغين فقط كلمة طيبةِِ وهمسة محبة وعبارة تواصل وإحساس صادق بأن دوامة الحياة لم تجرفنا بعيدا عنهن.
الآن وأنت تقدم عيدية لصاحبة العطاء والفضل الأكبر عليكِِ هل بادرت أولا بمصالحة قلبها؟ِِ هل استسمحت روحها لتصفح عن هفواتك معهاِِ وهل قلت لهاِِ إنني بصدق أحبك مثلما منحتني ذاتك ضياء للتوغل في دهاليز الحياة.
واسأل نفسك أيضا هل يعقل أن يكون الجحود ثمنا لعطاء الأمومة النابضة بالحنين؟ِِ وكن واعيا بحاجتك الدائمة إلى أمكِِ فذلك معناه أنك مازلت إنسانا يسري في دمائك النبل والوفاءِِ واحذر أن تنسيك الحياة غاية الرجوع إلى حديقتها العامرة بأطياف المحبةِِ او يجعلك طيشك قاسيا على نبع الحنان الذي أغدق عليك بالإنسانية واحتوى ضعفك وأسند هامتك المنكفئةِِ اعثر على أنفاسك المهشمة عند نبضاتها المانحة الصفو والسكينةِِ وعد من جديد لتسند رأسك الموجوع الى صدرها الحبيب، كبرت في العمر فاحتضن وهنها مثلما هيأتك للوجود.
مواقع النشر (المفضلة)