اختلف الفقهاء في حكم من نذر الصلاة في المسجد الأقصى، وعما إذا كان يتعين هذا الموضع بتعيينه في النذر أم لا؟ فيرى فريق منهم أن من نذر الصلاة في المسجد الأقصى أجزأه أن يصلي فيه، كما يجزئه أن يصلي في المسجد الحرام أو المسجد النبوي، وهو ما ذهب إليه المالكية، والأظهر من مذهب الشافعي أن من عين المسجد الأقصى للصلاة فيه تعين لذلك، والأصح من مذهبهم أنه يجزئ الناذر أن يصلي في المسجد الحرام أو المسجد النبوي ويخرج عن نذره بذلك، وهو ما ذهب إليه الحنابلة، ويرى الظاهرية أن الناذر يخير بين أمرين: الصلاة في المسجد الحرام وهو الأفضل، أو الصلاة في المسجد الأقصى، لما روي عن جابر رضي الله عنه “أن رجلا قام يوم الفتح فقال: يا رسول الله إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس ركعتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صل ههنا، ثم أعاد عليه، فقال: صل ههنا، ثم أعاد عليه، فقال: شأنك إذن”، وفي رواية أخرى عن عمر بن عبد الرحمن بن عوف عن رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الخبر، زاد فقال: “والذي بعث محمدا بالحق لو صليت ههنا لأجزأ عنك كل صلاة في بيت المقدس”، حيث بين رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن نذر الصلاة في المسجد الأقصى، أنه يجزئه الصلاة في المسجد الحرام، ولا يتعين عليه الصلاة في الأقصى، قال ابن حزم: “لما أخبر الرجل النبي صلى الله عليه وسلم بأنه نذر الصلاة في بيت المقدس، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: “صل ههنا” يعني بمكة، تبين بذلك أنه ليس عليه بمقتضى وجوب نذره أن يصلي في بيت المقدس، وصح أنه ندب مباح، وكان في ظاهر الأمر لازما له أن يصلي بمكة، فلما راجع بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وقال له: “فشأنك إذاً”، تبين وصح أن أمره عليه الصلاة والسلام بأن يصلي بمكة ندب لا فرض أيضا، فصار كل ذلك ندبا فقط”، وروى عن ابن عباس رضي الله عنهما “أن امرأة شكت شكوى، فقالت: إن شفاني الله فلأخرجن فلأصلين في بيت المقدس، فبرأت ثم تجهزت تريد الخروج، فجاءت ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تسلم عليها، فأخبرتها ذلك، فقالت: اجلسي فكلي ما صنعت وصلي في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: صلاة فيه أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا مسجد الكعبة”، إذ أفاد الحديث أن من نذر الصلاة في المسجد الأقصى يجزئه الصلاة في المسجد النبوي، كما يجزئه الصلاة في المسجد الحرام، لأنهما يفضلانه في ثواب الصلاة فيهما، وروى عن أم سلمة رضي الله عنها أنها “أمرت امرأة نذرت أن تصلي في بيت المقدس، أن تصلي في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم”، ولأن مسجدي مكة والمدينة أفضل من المسجد الأقصى باتفاق، لأفضلية الصلاة فيهما عنه، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام”، وذهب فريق آخر إلى أن من نذر الصلاة في المسجد الأقصى، يجزئه الصلاة فيه كما يجزئه الصلاة في غيره من المساجد ولو كان أعلى أو أدنى منه في الفضل، وإلى هذا ذهب أبو حنيفة وصاحباه، وهو ما عليه مذهب الحنفية.
إن المقصود المبتغى من النذر هو التقرب إلى الله تعالى، فلا يدخل في النذر إلا ما كان قربة، وليست القربة في عين المكان، لأنه موضع تؤدى فيه القرب، فلا يدخل في النذر ولا يتقيد به، فكان ذكره والسكوت عنه بمنزلة واحدة، ولأن المعروف من الشرع أن التزام ما هو قربة موجب، ولم يثبت عن الشرع اعتبار تخصيص العبد العبادة بمكان، بل إنما عرف ذلك لله تعالى، فلا يتعدى لزوم أصل القربة بالتزامه إلى لزوم التخصيص بمكان، فكان تخصيص المكان في النذر ملغياً، وبقي لازما بما هو قربة، وبعد النظر في أدلة الفقهاء في هذه المسألة، فإنه يترجح في نظري ما ذهب إليه أصحاب المذهب الأول، من أن من نذر الصلاة في المسجد الأقصى أجزأه أن يصلي فيه، كما يجزئه أن يصلي في المسجد الحرام أو المسجد النبوي، لما استدلوا به على مذهبهم، ولأن الناذر وإن أوجب على نفسه الصلاة في مكان مخصوص، إلا أنه يخرج عن عهدة الواجب بأدائها في موضع يفضل ثواب الصلاة فيه عما عينه في نذره، وقد ثبتت أفضلية ثواب الصلاة في المسجد الحرام والمسجد النبوي، بأحاديث ثابتة، وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث جابر رضي الله عنه لمن نذر الصلاة في المسجد الأقصى، إجزاء صلاته المنذورة في المسجد الحرام بدلا من المسجد الأقصى، وأفاد حديث ميمونة رضي الله عنها كذلك إجزاء الصلاة في المسجد النبوي عن الصلاة المنذور أداؤها في المسجد الأقصى.
مواقع النشر (المفضلة)