ثار من حوله الجدل والحوار أكثر من كل ذي جناح ومنقار، حتى أصبح علما على نار، يأكل اللحم والثمار ويبني بيته على قمم الأشجار، يراه البعض نذير شؤم ودمار، ويراه البعض الآخر خيرا للديار، سيره غريب وصوته عجيب وأمره مريب لكنه لا يدفع شرا أو يجلب خيرا.
يُكنى بأبي حاتم وأبي جحادف وأبي الجراح، وأبي حذر وأبي زيدان وأبي زاجر، وأبي الشؤم، وأبي غياث وأبي القعقاع، وأبي المر، وأبي الأبرص وابن بريح وابن داية.
يضرب به المثل في الحذر وحدة البصر والشؤم والبكور، فيقولون أحذر وأبصر وأشأم وأبكر من غراب، وقيل إنه يستيقظ مبكرا قبل معظم الطيور، ويقولون أيضا “طار غرابه” أي أدركه المشيب، و”أرض لا يطير غرابها” أي عالية الخصوبة، و”أبطأ من غراب”، وقيل إن نوحا عليه السلام أرسله لمعرفة مكان البر فذهب ولم يعد.
الغراب طائر أسود ينتمي إلى الفصيلة الغرابية ينتشر في كثير من بلاد العالم وتتعدد فصائله وأشكاله. من أنواعه الغراب أبو برنس: وهو بين الأسود والرمادي، والغراب النوحي وموطنه نصف الكرة الشمالي، والنوحي الأحيل ويعيش في صحراء مصر الغربية ولا يدخل منطقة الوادي وهناك الغراب المروحي ويعيش في شبه جزيرة سيناء.
ومنه الأسود والأبقع والزاغ والغداف والأعصم.
أطلق عليه العرب اسم “غراب البين” وتشاءموا منه خاصة عند السفر ويقال: إن من اسمه جاء اشتقاق الغربة والغريب والاغتراب.
تجذب انتباهه الأشياء اللامعة والملونة، وكثيرا ما يحمل إلى عشه قطع الصابون الملونة والزجاج والمعادن والبلاستيك.
وهو من الطيور الصديقة للفلاح مثل الهدهد وأبي قردان، ويساعده على القضاء على الحشرات والآفات، ويتغذى أيضا على القوارض وأفراخ الطيور والحبوب والجبن والبيض، ويضع في أغصان الشجر أدوات تشبه الخطاف تساعد على بناء عشه وتدبير أمر حياته.
يتميز الغراب بقدر عال من الذكاء عن غيره من الطيور، وقد استطاعت أنثاه أن تعيد ثني سلك معدني وتحويله إلى خطاف تجذب به الطعام من داخل أنبوبة في أحد المعامل البريطانية. في التجربة التي تم اجراؤها في جامعة أكسفورد وأشرف عليها الباحث أرجنتيني الأصل البروفيسور أليكس كاسيلنيك، ونشرت نتائجها بمجلة ساينس الأمريكية أدركت أنثى الغراب العلاقة بين الغاية والوسيلة، واستطاعت أن تتوصل إلى صنع أداة بثني سلك مستقيم حولته إلى خطاف لرفع دلو صغير فيه بعض اللحم المفروم، ويعيش هذا النوع الذكي من الغربان في جزيرة كالدونيا بالمحيط الهادي.
قيل إنه سمي غرابا لأن لونه اسود وفي القرآن الكريم (وغرابيب سود) والكلمتان بمعنى واحد، ويقول ابن مالك في الفيته الشهيرة في جمع كلمة غراب: بالغرب اجمع غرابا ثم أغربة
والغراب الأعصم من الأنواع النادرة، وسمي بذلك لأن يجمع بين اللونين الأسود والأبيض في رجله أو بطنه أو جناحه، ويقال: أعز من الغراب الأعصم.
وغراب البحر طائر مائي كبير يجيد السباحة ويشبه البجعة، داكن اللون يعيش بالمناطق المعتدلة والحارة في البحار والبحيرات، له ريش كثيف طول جسمه من 60 إلى 90 سنتيمترا منقاره طويل معقوف يصيد السمك بمهارة ويهاجر من الشمال إلى الجنوب في فصل الشتاء.
وللغربان لغة تتفاهم بها في حياتها، إذا وقع أحد صغارها في يد طفل صغير اجتمعت من حوله تصرخ وتصيح وتحوم وتهاجم الطفل لتسترد صغيرها، ويبدو أن الغراب يذّكر الإنسان دائما بعجزه وقلة حيلته كما يذكره بالموت، ولهذا يتشاءم منه أهل الشرق. لكنهم في الغرب يتفاءلون به ويعتبرونه تميمة لجلب الحظ السعيد وربما جاء ذلك للسبب نفسه لأنه خلص أباهم من مشكلة كبرى وفتح الباب لاستمرار رحلة الحياة.
سيطر التشاؤم على الأسرة المالكة في بريطانيا أواسط التسعينات من القرن الماضي، خوفا من أن تتحقق نبوءة قديمة بزوال الملكية في بريطانيا يرجع تاريخها إلى القرن السابع عشر.
تقول النبوءة إن الملكية ستزول إذا اختفت الغربان من برج لندن. فأصدر الملك شارل الثاني (1660 1685) مرسوما ملكيا في سنة 1662 بألا يقل عدد الطيور السود عن ستة غربان، وقالت صحيفة صن (الشمس) إن الغراب “شارلي” خفض العدد إلى خمسة فقط، وعلى الفور تم إحضار غراب جديد بدلا من الغراب الذي قتله احد كلاب الحراسة.
ويروى أن رجلا تحطمت سفينته فهبط إلى جزيرة قريبة وعاش فيها ثلاثة أيام لم يمر عليه احد، ففقد الأمل في العودة إلى وطنه وأهله، وظن أن ذلك من المستحيل فقال:
إذا شاب الغراب أتيت أهلي
وصار القار كاللبن الحليب
فأجابه هاتف يقول:
عسى الكرب الذي أمسيت فيه
يكون وراءه فرج قريب
فنظر الرجل في الأفق فإذا بسفينة قادمة نحو الجزيرة حملته إلى وطنه وأهله بأمن وسلام.
ورد ذكر الغراب في القرآن الكريم في سورة “المائدة” حيث يقول الله تعالى: “فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ فَبَعَثَ اللّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ” (المائدة 30 31).
ويقول الله في محكم آياته: “وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابيبُ سُودٌ” (فاطر: 27). وغرابيب جمع غربيب وهو الشيء شديد السواء.
وقد قعت أول جريمة على وجه الأرض في حياة آدم عليه السلام، الذي كان أبا للقاتل والمقتول، فقتل قابيل أخاه هابيل حقدا وحسدا بعد أن قدم كل منهما قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر.
ووقف القاتل حائرا بعدما ارتكب جريمته في حق أخيه ولم يصل إلى حل لهذا الموقف العصيب، وهنا جاء الحل من السماء، أرسل الله سبحانه وتعالى غرابين واقتتلا قتالا عنيفا حتى قتل أحدهما الآخر، فحفر الغراب القاتل حفرة في الأرض ووارى سوءة أخيه وغطى عليها بالتراب.
وتعلم الإنسان الدرس من الغراب وظل يعمل به حتى اليوم وإلى أن يرث الله الأرض.
وقد سيطرت فكرة التشاؤم والتفاؤل على حياة الإنسان منذ فجر التاريخ، كما اتخذ الملوك والحكام عرافين ومنجمين يحددون لهم أوقات سعدهم ونحسهم، وفي الغرب يتشاءمون من الرقم ،13 ويحذفونه من طوابق الفنادق وحجراتها.
وفي العصر الجاهلي أطلق العرب في شبه الجزيرة العربية الطير عند السفر أو الحرب أو غير ذلك من أمور تجارتهم وحياتهم، فإذا اتجه الطير يمينا أقبلوا على الأمر ظنا منهم أن ذلك يضمن لهم السلامة والسفر والربح والتوفيق، وإذا مضى في اتجاه الشمال تشاءموا وترددوا وأقلعوا عن الأمر الذي عزموا عليه حتى يأتي الوقت المناسب.
وجاء الإسلام لينهى عن التطير (فلا طير ولا طيرة) كما أشار النبي الكريم صلى الله عليه وسلم.
وقد اقترح أحدهم ذات يوم على الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أن يؤجل زحف احد الجيوش إلى موعد آخر لأنه أطلق طيرا فمضى ناحية الشمال على عادة أهل الجاهلية، فغضب الإمام ومضى في ما عزم عليه وتوكل على الله، وتحرك الجيش في الموعد المحدد وقال: “اللهم لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك ولا إله غيرك”، ومضى الجيش وقاتل في سبيل الله وعاد منتصرا مظفرا.
مواقع النشر (المفضلة)