لا تعارض ولا تضاد بين العقل والوحي وهذا ما قرره علماء المسلمين !!
ممدوح الأحمدي - جدة
أكد الدكتور خلدون محمد سليم الأحدب أستاذ الحديث وعلومه بجامعة الملك عبدالعزيز بجدة على أهمية ومكانة العقل في الإٍسلام ووجوب المحافظة عليه حيث أنه من الضروريات الخمس التي جاءت الشريعة الإسلامية للمحافظة عليها لأنه مناط التكليف، ومن ثم حفظه ضرورة لا غنى عنها، حتى تستقيم حياة الناس.
جاء ذلك في محاضرة ألقاها ضمن فعاليات منتدى الفكر الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي والتي أقيمت مساء الأحد الماضي بقاعة اجتماعات المنظمة بعنوان ''أثر علم أًصول الحديث في تشكيل العقل المسلم'' حيث نبه إلى تميز الإنسان عن غيره من سائر المخلوقات بأن جعله الله مستخلفا في الأرض والقرآن لا يذكر العقل إلا في مقام التعظيم والتنبيه وإلى وجوب العمل به والرجوع إليه. كما بين استحالة أن يكون بينه وبين الوحي تضاد أو تعارض فهما متعاضدان بل متحدان، ولذلك كانت تلك القاعدة الكبرى التي قررها علماء المسلمين: ''إن صحيح المنقول لا يعارض صريح المعقول''.
وتناول موضوع التحولات التي جاء بها هذا الدين الرباني في تشكيله للعقل حيث أشار إلى أنها تتعدد على النحو التالي: أولا: ''النقلة التصورية الاعتقادية'' حيث تم تحويل التوجه الإنساني من التعدد إلى الوحدة، ومن عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، فالعقيدة الجديدة جاءت لكي تنقل الإنسان إلى التوحيد والسعة والعدل. ثانيا: ''النقلة المعرفية'' وكان هذا في صميم العقل من أجل تشكيله بالصيغة التي تمكنه من التعامل مع الكون والعالم والوجود. ثالثا: ''النقلة المنهجية'' وهي ترتبط بالنقلتين السابقتين حيث أن ''المنهج'' يؤدي دورا خطيرا في حركة الإنسان الفكرية والحضارية ومن دونه ليس ثمة طريق يوصل إلى الأهداف.
وسلط الضوء على موضوع علم أصول الحديث والنقلة المنهجية مبيناً أن النقلة المنهجية للعقل المسلم تمثلت وتحققت على أتم وجه من خلال ''علم أصول الحديث''، ''وعلم أصول الفقه''، حيث أن كل واحد منهما يعد منهجا بالمعنى الدقيق..
وذكر في محاضرته أن هناك حقائق أربع مهمة لإدراك منهجية ''علم أصول الحديث'' وهي الحقيقة الأولى: أن قواعد وقوانين هذا العلم كانت شاملة لكل أوجه احتمال القوة أو الضعف في جوانب الحديث سندا ومتنا. الحقيقة الثانية: أن المنهج النقدي لم يكن منهجا تهيمن عليه النزعة التشكلية كما يدعي بعض المستشرقين وأن علماء الحديث لم يهتموا بالنقد الداخلي والمتعلق بالمتن. الحقيقة الثالثة: أن بناء ''علم أصول الحديث''، كان بناء عقليا، ولولا هذه الصفة، لما كان له أبدا هذا الأمر البالغ في بناء وتشكيلة العقل المسلم، كما اشترط المحدثون لقبول خبر الراوي الثقة جملة من الشروط أهما: أن لا يكون ما رواه مخالفا لموجبات العقول، وأن لا يكون مخالفا لنص الكتاب أو السنة المتواترة. الحقيقة الرابعة: أن ''علم أصول الحديث'' إذا كان بناؤه عقليا، فإن هذا البناء العقلي بامتداداته، لم ينفك أبدا عن ''البناء التربوي''، مما يؤكد شمولية هذا العلم من طرف وتوازنه من طرف آخر، حيث أفرد علماء الحديث نوعا مستقلا من أنواع علوم الحديث أسموه: ''معرفة آداب المحدث وطالب الحديث''،وكانت الغاية من هذه الآداب معرفة المنهج الذي ينبغي التزامه من قبل المحدث وطالب الحديث في التعامل مع الآخرين.
وحول أثر علم أصول الحديث في تشكيل العقل المسلم حصرها د. الأحدب في التالي: تكوين العقلية العلمية، الإسهام الكلي لهذا العلم في تكوين العقلية العلمية التي هي من أهم خصائص العقل المسلم، جعل هذا العقل في عصمة من الفوضى والاضطراب والذي يتمثل في ضياع المقاييس، وإهمال الضوابط أو تجاوزها وغياب الرؤية الشاملة وعدم إبصار الأولويات، التأكيد على الوحدة والتلاقي من خلال التحقق بمنهج الإعذار فيما يقع فيه اختلاف -مما يصح فيه ذلك- بما ساعد ويساعد في التواصل بين المذاهب الإسلامية، أن أسلوب التعليم والتربية والقيم والآداب والسلوك كان تأكيدا على ضرورة اقتران العلم بالعمل والنظرية بالتطبيق،والمعرفة بالسلوك، مما يدفع بالأمة إلى التفوق الروحي والأخلاقي والاجتماعي والعمراني معا.
وقبل الختام كانت هناك بعض الأسئلة والمداخلات من الحضور والتي كان من ضمنها مداخلة الدكتور حمزة الفعر حيث قال: أحببت أن أضيف إلى بعض ما ذكره الأستاذ الكريم بعض الأمور التي لم يتطرق إليها الأخ الكريم أو ذكرت متناثره:
- تنمية الحاسة النقدية من خلال الموازين العلمية الدقيقة التي لا تجعل مكانا للوهم والخيال في مجال التفسير والتي تقيم قاعدة القبول والرد على أسس لا تتأثر بالعواطف، ونستطيع أن نتلمس ذلك من خلال القطبين العظيمين في علوم الحديث''علم الرواية،وعلم الدراية''.
- ترتيب الذهنية بناء على قوة اليقين والتثبت وهذا ما نلحظه في تصنيف الأحاديث المقبول إلى درجات، وكذلك في تصنيف الأحاديث المردودة إلى درجات وفق قواعد يحكم العقل بأهميتها ودقتها وصحتها.
- قضية علم العلل: العناية بعلم العلل والذي يحتاج إلى قوة الملكة ودقة النظر العقلي وإدراك الميول الخفية التي تتطلب قدح زناد الفكر مما يزيد من درة العقل واستنارته لمعرفة الأمور على حقيقتها،وبث الأوهام التي يمكن أن تظلل الناس.
- القواعد النقدية التي وجدت في علوم الحديث والتي تنص صراحة على إظهار قيمة العقل وتقدير مكانته وهي كثيرة ولكني أشير إلى عدد منها: الاستدلال على وضع الحديث لأنها تدل على أهمية علم الحديث في تشكيل العقل المسلم.
اشتراط البلوغ لقبول الرواية وهذا الاشتراط من العلماء لأن البلوغ مظنّة اكتمال العقل وهذا مما يؤكد على أهمية العقل في هذا العلم الجليل كذلك من القواعد اشتراط اللقيا والمعاصرة والقواعد المتعلقة بالتدليس وغير ذلك مما هو مذكور مدوّن في كتب علوم الحديث، كل هذا مما يبعث على الثقة واليقين بأن العقول التي أنتجت هذا العلم والعقول التي تربت عليه أو قبست من آثاره حفظ الله بها دين هذه الأمة، وورثها بها منهجا علميا محكما لا يوجد عند غير أبناء هذا الدين.
وكان مسك الختام مع الدكتور عبدالله بن بيه حيث قال: إن العقل خلق الله وإن الشريعة وحيه ولا يجوز أن يختلف عقله ووحيه. الحضارة في الإسلام حضارة راشدة يميزها أنها توضح الدوائر، عندما وضعت الدوائر الثلاث كانت راشدة وهي دائرة الحس ودائرة العقل ودائرة الوحي، عندما يتصل بعضها ببعض تكون العمارة الراشدة. وقد أشار الله سبحانه وتعالى إلى ذلك في قوله: (وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات) فعمارة الأرض هذا هو استعمال الحس والعقل (وجاءتهم رسلهم بالبينات) هذا هو الوحي فإذا ضم العقل إلى الوحي شرط لتقوم الحضارة الإسلامية.
وأشار إلى أن كل الفنون تضعمت في تشكيل العقل المسلم لماذا نرى أن الفقه ما زال والبلاغة واللغة هذه العلوم الثلاثة كانت في قمة الحديث. الفقه مؤشر للحديث لا بد أن يكون المحدث فقيها حتى يوثق بعلمه لأنه بدون الفقه يمكن أن يخطئ ويمكن أن يخالف.. مشيراً إلى أن علم البلاغة هو من أهم العلوم التي ساهمت في التدقيق، لأن المحدثين يقولون أن بعض الحديث يعرف بالكذب إذا كان ركيكا، وأن مختلف العلوم يمكن أن نعتبر أنها شكلّت عقل المسلم بقدر ما تتضامن وتتعاون يكون العقل راشدا.
السلام عليكم
مواقع النشر (المفضلة)