تمر على كثير منا مواقف تهز عواطفه وتحرك أشجانه وتستثير في داخله الكثير من المشاعر، لتستدعي أحاسيسه أدوات التعبير على اختلافها، ليسجل الموقف ويرصد اللحظة وهذا ليس حكرا على الشاعر أو الكاتب أو الرسام وغيرهم ممن تبرز أدوات تعبيرهم مشاعرهم للملأ، وإنما هو أمر متعلق بكل من وطئت جسده الحياة فليس الواحد منا إلا تشكيلا من الأعضاء والمشاعر. وقد يظن البعض أن الحس المرهف لا يقترن إلا بالشاعر المتيم أو صاحب الريشة المبحر في عالم اللون أو غيرهم ممن تشكل انحناءات أدواتهم على اختلافها رمزا للرومانسية والانحناء للمشاعر الجياشة، وهؤلاء بين الناس نسبة فما حظ الآخرين منها؟ وليكن حديثي هنا موجها لمن يرى أن في إبداء مشاعره للآخرين انتقاصا من قدره ووصمة عار في جبينه.
إن سير العظماء مليئة بالمواقف التي يستدعون فيها المشاعر ويحكمون الموقف فيها بسلطة الأحاسيس والمتأمل في تلك المواقف سيرى كيف أن القوة تنهار أمام اللحظة الشاعرية لا ضعفا بل قوة مستمدة من منبعها الروحي الأصيل، فقوة السلطة أمام المشاعر ليست إلا وهنا وقوة الذات أمام اللحظات الإنسانية ليست إلا راية سوداء تتلاقفها الريح.
فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه رغم ما حملته شخصيته من شجاعة وقوة وهيبة إلا أن مشاعره تستدعي قوته النفسية وتحرك في داخله مشاعر الرحمة والخوف من التقصير وتستحث عينيه على البكاء أمام هذا الموقف الذي ربما مر أكبر منه أمام من هو أقل من عمر دون أن يستدعي مشاعره ويطلق لدواخله العنان كما ينبغي لها أن تنطلق مكابرا أو متجاهلا؛ فعن ابن عمر قال: قدمت رفقة من التجار فنزلوا المصلى، فقال عمر لعبدالرحمن: هل لك أن تحرسهم الليلة من السرقة. فباتا يحرسانهم ويصليان ما كتب الله لهما فسمع عمر بكاء صبي فتوجه نحوه فقال لأمه: اتقي الله وأحسني إلى صبيك. ثم عاد إلى مكانه، فسمع بكاءه، فعاد إلى أمه فقال لها مثل ذلك، ثم عاد إلى مكانه، فلما كان من آخر الليل سمع بكاءه، فأتى أمه فقال لها: ويحك إني لأراك أم سوء، مالي أرى ابنك لا يقر منذ الليلة. قالت: يا عبدالله، قد أبرمتني منذ الليلة، إني أريغه عن الفطام فيأبى. قال: ولم؟ قالت: لأن عمر لا يفرض إلا للفطم. قال: وكم له؟ قالت: كذا وكذا شهرا. قال: ويحك لا تعجليه.
فصلى الفجر وما يستبين الناس قراءته من غلبة البكاء، فلما سلم، قال: يا بؤسا لعمر كم قتل من أولاد المسلمين. ثم أمر مناديا فنادى أن لا تعجلوا صبيانكم عن الفطام، فإنا نفرض لكل مولود في الإسلام، وكتب بذلك إلى الآفاق أن يفرض لكل مولود في الإسلام.
فمهما كبرت الذات في عين صاحبها أو في أعين الناس فلن تنتقصها لحظة المشاعر الصادقة أيا كان عمق هذه اللحظة وقوة تعبيرها فبصدقها تصدق دلالتها ويعظم أثرها، وحتام تبقى هذه المشاعر سجينة صدورنا حبيسة أعيننا تحت قضاء كبرياء النفس الجائر، بحجة أنها ضعف ووهن.
فلنعلم أن الله لم يخلق الفرح دون حزن والضحك دون بكاء، وأن النفس إنما حملت من المشاعر متناقضها ليكون لكل مقام ومقال، ولتجد النفس في زحمة المشاعر عدلا وإنصافا.
ليس كلامي هذا دعوة للبكاء والحزن بقدر ما هو دعوة تحرير للمشاعر من سجنها أمام من يعرف معنى تحرير المشاعر ويقدر لكل دمعة قدرها ولكل آهة صداها حتى وإن كان هذا الشيء زاوية تحت سقف الليل.
إذا الليلُ أضْواني بَسَطْتُ يَدَ الهوى
وأذللتُ دمْعاً من خَلائقِهِ الكِبْرُ
مواقع النشر (المفضلة)