العقل الإنساني متحدياً الكمبيوتر
نعم نحن نعيش، وما من شك وبلا جدال، عصر المعرفة المتفجرة وزخما معلوماتيا هائلا، وتلاحق الأفكار، وتباين النظم.. وتتعاظم المنتجات التي تصدرها أجهزة ذكية اصطناعياً ذات عبقرية مبدعة مثلما هو حادث في الكمبيوتر المحمول أو المكرو والهاتف الجوال، ناهيك عن (موديلات السيارات والطائرات دون طيار وسفن الفضاء (وجار الحجز لرحلة للقمر) وبصمة إلكترونية للسحب من رصيد بالبنك ولصرف الرواتب الشهرية، فضلاً عن الهندسة الوراثية وأساسات لعلوم المستقبل ذات محددات منهجية، وذلك بعزم خدمة الأجيال اللاحقة.
والرأي لدينا - نتفق فيه مع البعض، والبعض لعله يتفق معنا - أن الفيض المعرفي والتدفق المعلوماتي، والتطور الكمبيوتري توقف أمامه العقل البشري في أن يلاحقه أو يكتسب مخرجاته بذات معدل سرعة هذا التطور الحادث فيه.
ومن المحتوم أن نتساءل لماذا؟ والإجابة - وإن كانت على عجل - لأن قاموس المعرفة تلاشت منه بعض المصطلحات المهمة مثل: مصطلح (الهنا والهناك)، مثل (السواء واللا سواء)، مثل (قبل وبعد)، مثل (الماضوية والحداثية)، مثل (الخصوص والعام أو الذاتي والموضوعي في الطرح العلمي والفكر التأويلي)، وذلك نتيجة التغير الراكض في المجال المعرفي والمعلوماتي؛ ما يؤدي إلى تغير اجتماعي لا محالة من الخوض فيه حتى لا نتهم بالسكونية والتقليدية، وحتى لا يحكم علينا بالتغريب والتهجين، وحتى لا يفهم عنا أننا لسنا على وفاق مع المخترَع في العلم والمستجد في المعرفة والمستحدث في المعلومات.
لكننا - والحق نقول - حريصون على غربلة ما هو قادم إلينا من مجالات المعرفة، وعلى أساس الاهتمام بعرضها مبادئ مذهبيتنا وقيمنا الشافية، وتتملكني الجسارة في القول إننا حتى الآن قادرون على الحفاظ على هويتنا الثقافية وحيازتنا منهجية علمية تمكننا من استيعاب مستجدات العصر، والوعي بما هو معروض في عالم المعرفة وفي ميادين المعلوماتية والبيانات، وتخير ما هو مناسب منها لإمكانات التعامل معها.
أقول ذلك في مواجهة هؤلاء الذين يثيرون القلق حول الاستدخال الإجمالي لمستجدات العصر في منظومتنا الثقافية؛ ما يحتم ضرورة المحاكاة المجردة والمقابلة للنسق القيمي، حيث يتصورونه لغزاً يستعصى الإلمام بمجمع جزئياته، ومن ثم التعامل الدقيق معه، والاكتفاء بمجرد الدخول لساحة معروضاته، والأمل في أن يكون مردود هذا الدخول هو الإدراك والتيقن بأنه مشهد حضاري - ولا شك في ذلك -.
والذي يمكن له أن يعين على إدراك هذا المشهد هو محاولة استخلاص مرتكزات هذا العالم المعلوماتي المتكامل معه دون التطرق في الانحياز له أو التسرع في التحول عنه، ويحدوه في ذلك ثلاثة استفسارات أساسية:
أولاً: ما هذا الذي يحيق بعالم المعرفة في بعدها المعلوماتي - الثقافي؟.
الثاني: ما موقفنا إذن من هذا العالم المعرفي إزاء ذلك البعد؟.
الثالث: ما هي سياستنا الاستراتيجية في انتقاء المعرفة التي تناسب ثقافتنا والتي تصلح لنا ويمكن أن تدفع بروافد ثرية لمخططات التنمية الشاملة؟.
وللتعامل مع هذه الاستفسارات يحتاج كل منه إلى مقال مستقل، لكننا سنمر عليها سريعاً على النحو التالي فيما بقى من مساحة لهذا المقال:
- إن ما يحيق بعالم المعرفة هو تلك التبادلية ما بين الثقافة وتكنولوجيا المعلومات، فإذا ما نظرنا إلى المستجد في تكنولوجيا المعلومات (أهمها آفاق النت) تظهر أمامنا ثقافتنا مستظلة بالأصالة المعاصرة والعكس صحيح.
ويتجدد موقفنا في استخدام منهجية انتقائية للتمكن من تفعيل نموذجنا الذي نحتذيه ونطور فيه باستدماج النافع والفاعل في دينامية البعد المعلوماتي الثقافي لدعم النموذج لخدمة التنمية الوطنية، وهي مدخل أساسي للتطور الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والتربوي والعلمي والإبداعي.
والسبيل إلى ذلك هو التلقي المعرفي المعلوماتي وتناوله بالنقد (تفعيل العقل وشحذ الفكر)؛ ما يزيد من فاعلية المجتمع وحيويته والدفع به لمزيد من التطور والتقدم.
عزيزي القارئ، في عصر تدفق المعرفة والمعلومات والإنسان الآلي والكمبيوتر والإنترنت، لم يعد الذكاء قاصراً على العقل البشري، كما أسلفنا، بل تنازعه الأجهزة الإلكترونية، وعلينا أن ندرك حقائق الواقع والمؤثرات الحادثة في إمكانات آلة الفكر الإنساني بمقدراتها الذاتية التي تمكنه من بلوغ النتائج من ثنايا المقدمات ومن التعامل مع المجردات واعتماداً على عناصر الذاكرة ومهارات التعامل مع الموجودات، وعلينا أن نحسن من إمكاناته من خلال: شحذ الذهن ودعم الفكر عن طريق تصحيح ما أتلفته الحواسيب المختلفة ودعم القدرة على تفهم الواقع واستشراف المستقبل وتنمية الجدل الفلسفي والتدبر في الخالق ومخلوقاته والإلمام بالمعرفة العلمية المتخصصة، وتعليمه استخدام تكنولوجيا المعلومات وتجنب آثارها السلبية.
وهكذا ينمو الفكر ويتصاعد في مراحله إلى أعلى.
وأخيراً: من أين نبدأ في تذكية العقل ودعم الفكر لمواجهة تحديات الكمبيوتر؟
إن نقطة البدء هي إصلاح وتطوير النسق التعليمي ومرتكزه إيماناً بالضرورة للممكن والمتاح، حتى لا تتعطل عقولنا وينطمس تفكيرنا ونصبح مدمني حاسوبات في حياتنا ومعاشنا. والله المعين.
مواقع النشر (المفضلة)