نعيش اليوم مع اللحظات الأخيرة في حياة رجل كان دائماً يقول: “ما أصبحت صباحاً قط، إلا ظننت أني لا أمسي.. ولا أمسيت مساءً إلا ظننت أني لا أصبح. ولا خطوت خطوة إلا ظننت أني لا أتبعها غيرها.. وكأني أنظر إلى كل أمة جاثية تدعى إلى كتابها.. وكأني أرى أهل الجنة في الجنة ينعمون.. وأهل النار في النار يعذبون..”، إنه الصحابي الجليل معاذ بن جبل، رضي الله عنه.
يذكر ابن حجر العسقلاني في كتاب “الإصابة في تمييز الصحابة” أنه لما حضرت معاذ بن جبل الوفاة، نطق بكلمات عظيمة تكشف عن مؤمن عظيم. فقد كان يحدق في السماء ويقول مناجياً ربه الرحيم: “اللهم إني كنت أخافك، لكنني اليوم أرجوك، اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب الدنيا لجري الأنهار، ولا لغرس الأشجار... ولكن لظمأ الهواجر ومكابدة الساعات، ونيل المزيد من العلم والإيمان والطاعة”.. وبسط يمينه كأنه يصافح الموت، وراح في غيبوبته يقول: “مرحباً بالموت.. حبيب جاء على فاقة”.
رحمة من الله
وعن عبد الله بن رافع عن أم سلمة أن أبا عبيدة لما أصيب، استخلف معاذ بن جبل في طاعون عمواس، اشتد الوجع، فصرخ الناس إلى معاذ: ادع الله أن يرفع عنا هذا الرجز، قال: “إنه ليس برجز ولكن دعوة نبيكم، عليه الصلاة والسلام، وموت الصالحين قبلكم، وشهادة يخص الله بها من يشاء منكم. أيها الناس، أربع خلال من استطاع ألا تدركه. قالوا: ما هي؟ قال: يأتي زمان يظهر فيه الباطل، ويأتي زمان يقول الرجل: والله ما أدري ما أنا، لا يعيش على بصيرة، ولا يموت على بصيرة”. أخرجه ابن سعد في طبقاته.
وكان معاذ بن جبل رضي الله عنه يقول: “اللهم آت آل معاذ نصيبهم الأوفى من هذه الرحمة، فطعن ابناه، فقال: كيف تجدانكما؟ قالا: يا أبانا، “الحق من ربك فلا تكونن من الممترين” (سورة البقرة: 147). قال: وأنا ستجداني إن شاء الله من الصابرين ثم طعنت امرأتاه فهلكتا، وطعن هو في إبهامه فجعل يمسها حتى هلك”.
وتحدث شهر بن حوشب، عن رابه (رجل من قومه) كان شهد طاعون عمواس فقال: لما اشتعل الوجع قام أبو عبيدة بن الجراح في الناس خطيباً فقال: أيها الناس، إن هذا الوجع رحمة من ربكم ودعوة نبيكم وموت الصالحين قبلكم وإن أبا عبيدة يسأل الله أن يقسم له منه حظه. قال: وطعن فمات، رحمة الله عليه، واستخلف على الناس معاذ بن جبل، فقام خطيباً بعده فقال: أيها الناس، إن هذا الوجع رحمة ربكم، ودعوة نبيكم، وموت الصالحين قبلكم، وإن معاذا يسأل الله أن يقسم لآل معاذ منه حظهم.
قال: فطعن ابنه عبدالرحمن، قال: ثم قام فدعا ربه لنفسه فطعن في راحته، فلقد رأيته ينظر إليها ثم يقبل ظهر كفه ثم يقول: ما أحب أن لي بما فيك شيئاً من الدنيا. فلما مات استخلف على الناس عمرو بن العاص.
“حبيب جاء على فاقة”
وجاء في كتاب “أسد الغابة في معرفة الصحابة” لابن الأثير أنه لما اشتد ب “معاذ بن جبل” نزع الموت قال: فنزع نزعاً لم ينزعه أحد وكان كلما أفاق من غمرة فتح عينيه ثم قال: رب اخنقني خنقك، فوعزتك إنك لتعلم أن قلبي يحبك.
وروى عمر بن قيس عمن حدثه عن معاذ قال: لما حضره الموت قال: انظروا أصبحنا؟ قال: فأتى فقيل: لم نصبح حتى أتى في بعض ذلك فقيل له: قد أصبحت. فقال: أعوذ بالله من ليلة صباحها النار، مرحباً بالموت، مرحباً، حبيب جاء على فاقة، اللهم إني قد كنت أخافك وأنا اليوم أرجوك، إنك لتعلم أني لم أكن أحب الدنيا وطول البقاء فيها لجري الأنهار، ولا لغرس الأشجار ولكن لظمأ الهواجر ومكابدة الساعات، ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر.
واتفق أهل التاريخ على أن معاذا رضي الله عنه مات في طاعون عمواس بناحية الأردن من الشام سنة ثماني عشرة، واختلفوا في عمره على قولين: أحدهما: ثمان وثلاثون سنة، والثاني: ثلاث وثلاثون. وعن سعيد بن المسيب قال: قبض معاذ بن جبل وهو ابن ثلاث وثلاثين أو أربع وثلاثين سنة.
وعن عبد الله بن سلمة قال: قال رجل لمعاذ بن جبل: علمني قال: وهل أنت مطيعي؟ قال: إني على طاعتك لحريص.
قال: صم وأفطر، وصل ونم، واكتسب ولا تأثم، ولا تموتن إلا وأنت مسلم، وإياك ودعوة المظلوم. وعن معاوية بن قرة قال: قال معاذ بن جبل لابنه: يا بني، إذا صليت فصل صلاة مودع لا تظن أنك تعود إليها أبداً، واعلم يا بني أن المؤمن يموت بين حسنتين، حسنة قدمها وحسنة أخرها.
مواقع النشر (المفضلة)