هناك درس في حضارتنا يجب أن نقف عنده طويلاً وأن نحلله التحليل الموضوعي، وهذا الدرس يقول: إن بعض القوى الحاكمة في تاريخنا كانت تؤثر المصلحة الخاصة على المصلحة العامة وقد تضحي بأبطال عظماء في سبيل ما تراه ضامنا لمصالحها، بل تتوهم أخطاراً فتبني على أساسها سلوكيات خاطئة مدمرة.
ولقد كان القائدان محمد بن القاسم الثقفي فاتح السند، وقتيبة بن مسلم الباهلي فاتح المشرق حتى حدود الصين، ضحيتين لهذه التقديرات المتعسفة، والصراعات الوهمية الصغيرة، وكل ذنبهما أنهما كانا يعملان مع والٍ من الولاة، أو مع خليفة سابق، ودفعا ثمن ذنب لم يرتكباه.
وعندما نتحدث عن جهود قتيبة بن مسلم، رحمه الله، فإننا نستطيع القول في بداية حديثنا إن قتيبة كان الفاتح الحقيقي الأبرز لبلاد ما وراء النهر، وقد تمكن أن يمد إليها نفوذ الدولة الأموية (41 132ه) إلى حدود الصين.
وإلى جانب ذلك كان له دور كبير في نشر الإسلام في تلك البلاد، حيث شجع الناس بوسائل كريمة على اعتناقه كما أنه اعتنى ببناء المساجد وتوزيع العلماء في الشرق، حتى غدا أهل تلك المنطقة جلهم مسلمين.
نشأ قتيبة بن مسلم نشأة حسنة، وتعمقت صلته بالقرآن والسنة، وتحرق شوقا منذ حداثته للجهاد في سبيل الله، وكان مشهوداً له بالإخلاص في العمل، والدهاء، ولهذا عندما مكنه الله في الأرض وتولى ولاية خراسان (86 ه)، كان عمله الأول إعادة النظام، ومحاربة الفوضى، وتوطيد العدل بين الناس.
وتوطئة لجهوده العسكرية في بلاد ما وراء النهر راح يجمع المعلومات عن تلك البلاد، ويراسل أمراء المناطق التي أسلمت في أفغانستان لكي تساعده وجيوشه الإسلامية على فتح تلك البلاد، لأنهم الأعرف بطبيعة بلاد ما وراء النهر، وطبيعة سكانها، ومن ثم قرر عبور نهر جيحون، فسار من مرو تجاه الشرق حتى وصل إلى مدينة (الطالقان) وفرض الصلح على الأماكن التي مر بها.
حصار “بيكند”
كانت مدينة (بيكند) من المدن المهمة تجاريا بين الصين وخراسان كما أنها كانت مشهورة بازدهار الزراعة.
وقد تقدم قتيبة لفتح (بيكند) بعد عبوره نهر جيحون، وكانت المدينة محاطة بأسوار ضخمة وفيها حامية قوية، ولكن بعض حلفاء أهل (بيكند) ومنطقة (بخارى) من الأتراك وغيرهم قاموا بحركة التفاف وتمكنوا من تطويق قتيبة وجيشه، وقطع كل خطوط مواصلاته مع الكوفة، فأصبح، وهو الذي كان يحاصر (بيكند)، محاصرا أيضا حولها.
وبذل الأعداء جهودا كثيرة لتدمير قتيبة وجيشه معنويا وماديا، إلا أنه واجه هذه الأوضاع بحزم كبير، ثم خاض ضد الترك معركة قاسية، انتهت بهزيمة الترك هزيمة شنعاء، فهرب منهم قسم كبير ولاذ القسم الآخر بمدينة (بيكند) الحصينة.
ودخل قتيبة (بيكند)، وما إن ابتعد عن المدينة بنحو خمسة فراسخ (حوالي 30 كم) حتى تمردت المدينة ونقضت الصلح وقتلت ورقة بن نصر، فبادر قتيبة إلى (بيكند)، فباشر دك أسوارها وفتح ثغرة فيها بواسطة قصف المنجنيق حتى هدم أسوارها واقتحمها وأباد حاميتها كلها.
وكان لسيطرة العرب على مدينة (بيكند) أثر كبير في فتوحات على بلاد ما وراء النهر جميعها، إذ كانت بيكند تعتبر يومها جوهرة ما وراء النهر وبلد التجار والتجارة وفي سنة 88 ه 706م تقدم قتيبة على رأس الجيش الإسلامي من مرو، ثم اتجه إلى رامتنة الواقعة في شمال مدينة بخارى، فطلبت الصلح واستسلمت دون قتال، وتقدم قتيبة بعد ذلك بجيشه نحو وردان، إلا أن الإمدادات التي وصلت إلى حاكم بخارى من حلفائه تجمعت في (خرقانة) السفلى لصده، وبعد قتال شديد دام يومين وليلتين، تمكن الجيش الإسلامي من دحرهم، إلا أنه لم يتمكن من التغلب على وردان خداه (ملك بخارى) الذي تحصن في مدينة وردان.
ثم سار قتيبة بجيشه سنة 90 للهجرة واستطاع أن يطوق بخارى ووردان إلا أن جموع “الصغر” وحلفاءهم التي تجمعت في ميدان المعركة لنجدة الملك وردان شجعت حامية بخارى على الخروج من الطوق الذي ضربه الجيش الإسلامي حول المدينة، فدار أعنف قتال، وقاتل المسلمون بضراوة، وكان قتيبة يجول بين الصفوف كالأسد الهصور حتى انتهت المعركة بانتصار المسلمين.
غزو خوارزم
وفي سنة 93 ه قام قتيبة بغزو مناطق (خوارزم) على مصب نهر جيحون بالقرب من بحيرة خوارزم وأدخل قتيبة المنطقة في طاعة الأمويين، ثم غزا (سمرقند) ونقل إليها كثيرا من الأسر المسلمة التي ساعدت في نشر الإسلام بها.
وفي سنة 94 ه غزا قتيبة بلاد (الشاش) و(فرغانة) وفتح العديد من المدن حتى وصل سنة 96ه إلى حدود الصين، ودارت بينه وبين ملكها المراسلات حيث قال ملك الصين لرسل قتيبة “انصرفوا إلى صاحبكم فقولوا له ينصرف فإني عرفت حرصه وقلة أصحابه، وإلا بعثت إليكم من يهلككم ويهلكه”، فقال رسول قتيبة: “كيف يكون قليل الأصحاب مَن أول خيله عندكم وآخرها في منابت الزيتون، وإن لنا آجالا إذا حضرت فأكرمها القتل، فلسنا نكرهه ولا نخافه”، فقال الملك: “فماذا يرضيكم”؟ قال رسول قتيبة: “إن القائد حلف ألا ينصرف حتى يطأ أرضكم ويختم ملوككم ويأخذ الجزية منكم”.. فقال: “فإنا نخرجه من قسمه، فنبعث إليه بتراب من تراب أرضنا فيطؤه، ونبعث ببعض أبنائنا فيختمهم، ونبعث إليه بجزية يرضاها”، ثم بعث ملك الصين إلى قتيبة بالهدايا والجزية، وبعث بأوان من ذهب فيها من تراب الصين، وأربعة غلمان من أبناء الملوك، فقبل قتيبة الجزية والهدايا، ووطأ التراب، برا بقسمه الذي أقسمه، وفي المقابل خضع إمبراطور الصين لشروط قتيبة مما يؤكد لنا عزة الإسلام من جانب، وانتصار المسلمين بالرعب من جانب آخر.
مواقع النشر (المفضلة)