خرج النبي محمد صلى الله عليه وسلم من حجرة عبادته مشرق الوجه متهلل النفس، ووضع رداءه وجلس عليه، فأقبلت خديجة هاشة باشة تحدثه وتستمع إليه، وإذا بمولاة خديجة تقبل قائلة:
حليمة السعدية. فخفق قلب محمد حنانا ورقة وراحت الذكريات تطفو على سطح ذهنه: ذكريات حفرت في اعماق اعماقه. تذكر بيداء بني سعد وأباه الحارث واخوته الشيماء ونفيسة وعبدالله وجبال هوازن. وتذكر أمه الحبيبة.
كانت لحظة مفعمة بالمشاعر والاحساسات، لحظة أحيت في مثل لمح البصر أيام طفولته، ومزجت بين صحراء بني سعد والكعبة ومجلس جده عبدالمطلب ويثرب وقمة مأساة طفولته وهو في طريق الأبواء وموت جده الحبيب.
وقامت خديجة وأدبرت لتنسل الى غرفتها تاركة لزوجها حرية لقاء مرضعته التي طالما حدثها عنها حديثا يقطر حبا ورحمة، وقبل أن تغيب في الدار مسَّ أذنيها صوت محمد الحنون ينادي في لهفة ووجد.
أمي. أمي. والتفتت فألفت محمدا يضم حليمة السعدية الى صدره في حب عميق، ويمرر يده عليها في حنان دافق وقد ترقرقت في وجهه سعادة عارمة وتألق في عينيه فرح فياض، لكأنما كان يحتوي في احضانه آمنة بنت وهب وقد بعثت من القبور.
وعمد محمد الى ردائه وبسطه لها فقعدت عليه، واقبل عليها يرحب بها أحر ترحيب ويبش لها ويغمرها بوده الخالص.
وفي غمرة اللقاء الحار والحنان السابغ نسيت حليمة آلامها وما جاءت من أجله، بل كادت تنسى أن زوجها وابنها ينتظرانها عند الباب حتى إذا ما سألها محمد عن حالها راحت تشكو إليه قسوة الحياة والجدب الذي نزل بهوازن وضيق العيش، وسألها عن أبيه الحارث وأخيه عبدالله فأنبأته انهما في الخارج، فانطلق اليهما بنفسه وعاد بهما وهو منبسط الاسارير، ثم عمد الى ردائه وبسطه فقعدا عليه الى جوار حليمة، وجلس امامهم يصغي الى احاديثهم وينفعل بها انفعالاً صادقاً، وفاض عليهم من كرمه، ثم ذهب الى خديجة يحدثها بما ألم بحليمة من ضيق وما حاق بها من كرب، فأعطتها عن طيب خاطر أربعين رأساً من الإبل والغنم، حتى إذا ما عزموا على الرجوع، قام يودعهم في حب صادق وود صافٍ.
مواقع النشر (المفضلة)