في حياة كل منا الكثير مما ينطبق عليه لفظ الخصوصية، والتي بدورها تندرج تحت عدة مسميات أخرى من شديدة الخصوصية إلى الأقل فالأقل، وقد يختلف هذا التصنيف من شخص إلى آخر حسب رؤيته لما يمكن أن يقال أو لا يقال، أو بصيغة أخرى ما يستطيع البوح به للآخرين، لأن ما يعتبره البعض خاصا جدا، قد لا ينظر إليه الآخر بتلك النظرة.

والناس كما يقولون مذاهب، وكل تحكمه عدة قناعات شخصية وتصورات حياتية تعبر في النهاية عن منهجه في تسيير أموره الخاصة، وعليه فان ما يمكن أن يعتبره البعض سرا لا يجب البوح به لأحد، قد لا يدخل في قائمة المحظورات التي لا يجب الإفصاح عنها في رأي آخر وهو ما يترتب عليه تعامل مختلف مع الحياة لكل منهما.

وكلمة سر في اللغة العربية تعني ما يسر به الإنسان اي يكتمه، وإذا كان الناس كما قلنا يختلفون في ما يكتمونه من أسرار فان هذا الاختلاف يرجع في المقام الأول إلى الاحتكام إلى رزانة العقل والحكمة من عدمه، فهناك أشخاص لا يدركون أهمية أسرارهم وتجدهم يتحدثون بها مع من لا تربطهم بهم علاقة قوية، وقد يكون الأمر مبررا إذا ما تحدث شخص ما بأسراره إلى صديق تربطه به صله قوية طالبا منه النصيحة أو المشورة، ولكنه من غير المبرر أن يضيق صدر المرء بسره بمناسبة ومن غير مناسبة.

في حياة كل إنسان مناطق يجب أن تظل محرمة لا يجوز لأحد الاطلاع عليها، إلا في أضيق الحدود إذا تطلب الأمر ذلك، لان استباحة الخصوصية لابد وان تجلب الكثير من المشكلات التي تنسحب بدورها على صاحب السر نفسه، وذلك باعتبار أن المعلومة التي تعرف عن الشخص تخلق تصورا عنه وتشكل نظرة قد تكون سلبية من وجهة نظر الآخرين، فالسر يمثل قوة لصاحبه مادام في الصدر ولكنه قد ينقلب إلى سلاح فتاك إذا ما انتقل إلى ألسنة من لا يعرفون للسر حرمته.

التحدث بالسر الشخصي أو أسرار الآخرين بلا ضوابط لا ينم عن حكمة في التعامل مع أمور الحياة، لأن صيانة السر واحترامه ميزة إنسانية مرتبطة بالإرادة القوية التي يستطيع من خلالها التحكم في لسانه وتدبر ما يقوله جيدا قبل أن ينطق به، وهذه الصفة لازمة لتنمية العلاقات الاجتماعية بين الناس والتفافهم وتضافرهم مع بعضهم بعضاً، لأنه إذا أهملت المبادئ الأخلاقية في تعاملات الناس وسمح للخيانة وإفشاء الأسرار بالانتشار لانعدمت تماما كل القيم الأخلاقية والدينية التي تدعم للمجتمع استمراره وتماسكه.

بالتأكيد أن هناك أشخاصا يؤتمنون على السر الذي اسر به شخص ما إليهم طيلة العمر، فلا يحاولون إفشاءه حتى ولو علم به آخرون وتحدثوا به أمامهم، وخاصة إذا كان هذا السر خاصا بالأعراض، فهؤلاء يعتبرون التحدث أو نقل سر بهذا الشأن أمرا مستحيلا، وهم يؤمنون بأن من أودع سرا لابد وان يكتمه ويحفظه والا أصبح خائنا للأمانة.

المحافظة على الأسرار وحفظها أمانة عظيمة وصفة نبيلة يحث عليها ديننا الاسلامي لما لها من اثر واضح في الفرد والمجتمع كما أسلفنا من قبل، وقد ورد في القرآن الكريم في أكثر من موضع الحث على الوفاء بالعهد وحفظ الأمانة.. يقول تعالى: “وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا” (الإسراء 34)، “والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون” (المؤمنون 8).

في بعض الأوقات نصادف من يتحدثون عن أنفسهم ويفشون أسرارهم أمام الجميع حيث لا يضعون خطوطا فاصلة بين ماهو عام وما هو خاص، ولا يهمهم إذا كان من يتحدثون أمامه قريبا أو بعيدا، وأعتقد أن ذلك يعود إلى نمط خاطئ في التنشئة لا يتم فيه غرس قيمة الحفاظ على الخصوصية، والتفرقة بين ما يجب ومالا يجب التحدث فيه، وهؤلاء يجب ألا يلوموا إلا أنفسهم إذا ما أصبحت حياتهم مادة تلوكها الألسنة.

وهناك أيضا من ينقلون إليك أسرار الآخرين دون أن تطلب أنت ذلك، والغريب أنها تخص أشخاصا لا تعرفهم ولم تصادفهم مرة واحدة في حياتك، وهؤلاء يكون الحذر منهم واجبا ولا يجب اطلاعهم على ما تريد الاحتفاظ به من أمور تخصك، لأنها لو خرجت من لسانك لما استطعت السيطرة عليها من أن تتداولها الألسنة.

إن الحكمة والعقل والمنطق تملي على الإنسان أن يتيقن جيدا مما يقوله وأبعاد ما يتلفظ به، وان يتخير جيدا من يبوح إليه، وان يكون ذلك في أضيق الحدود ومع المقربين فقط، مع وضع سياج حديدي حول بعض الأمور الحياتية التي لا تخص إلا الشخص نفسه، فمن يحفظ سر نفسه يحفظ لها كرامتها.. يقول الخليفة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: “القلوب أوعية الأسرار والشفاه أقفالها والألسن مفاتيحها فليحفظ كل امرئ مفتاح سره”.