ميلاد جنوبي
الخامس والعشرين من تموز 2006، هو اليوم الذي كان يحلم «هادي» بقدومه بفارغ الصبر، ليحتفل بعيد ميلاده الخامس.
هادي الولد الثاني في عائلته المؤلفة منه ومن شقيقه الأكبر هاني، ابن الربيع السابع، أما شقسقه الأصغر هلال، رضيعاً لم يتعدى عمره الأشهر العشرة. ووالده ابن الخامسة والثلاثين عاماً ووالدته لم تتعدى لالثلاثين من عمرها.
لكن ما لم يعلمه هادي، أن القدر كان أقرب إليه من يوم ميلاده في الخامس والعشرين من تموز، حين بدأ الحقد الصهيوني في الثاني عشر بممارسة أبشع أنواع الهمجية على الآمنين في قراهم ومنازلهم وحقولهم وبساتينهم.
في تلك الأيام المشؤومة من تاريخ لبنان عامة، وجبل عامل وبقاعه وضاحيته الجنوبية خاصة، لبى أبو هاني نداء الواجب الجهادي في سبيل الله والوطن، والتحق مع إخوانٌ له في الله في ركاب مجموعات رجال الله ليصدقوا ما وعدوا الله به، مؤمنين بما وعدهم به في كتابه الكريم أن الله وملائكته يقاتلون مع المؤمنين.
وبقيت أم هاني المسؤول الأول والأخير بعد الله عن عائلتها، تمارس دورها الجهادي إلى جانب أطفالها ليكونوا في المستقبل القريب من عداد رجال الله، أما شريك عمرها كان جهاده على تلك التلال الطاهرة من أرض عاملة، أرض أبي ذرّ.
وفي إحدى تلك الليالي الثلاثة والثلاثون المجنونة، التي مارس فيها ثقتلة الأنبياء أبشع مجازرهم في كل الإتجاهات وداخل كل القرى الجنوبية والبقاعية وضاحية بيروت الجنوبية، غير آبهين بالنساء والأطفال ناهيك عن العُجز، ومع إشتداد ظلمة تلك الليلة هربت أم هاني من جحيم الصواريخ الغبية، إلى إحدى ملاجىء قريتها، حيث إجتمع عدد كبير من الأهالي، وبينهم العدد الأكبر من الأطفال رفاق هاني الحالمين بالمستقبل وأعياد الميلاد.
جلس هادي إلى جانب أمه يحدثها عن يوم ميلاده، وأنه عندما يعود والده سيطلب منه قالب حلوى ليدعو رفاقه جميعهم إلى عيده.
لكن طائراتهم المجنونة كانت تسترق السمع على أحلام الأطفال وبرائتهم، وأبت لهم أن يسعد أطفال هذا الجبل حتى في أحلامهم، وأرسلت صواريخها التي حولت الحلم إلى حفرة من حفر الجحيم، قلب كل شيء رأساً على عقب.
أم هاني، تعود غلى وعيها، تنظر من حولها، تستذكر ما حدث، لكنها لم ترى سوى الظلمة الحالكة، لتسمع صوت رضيعها هلال يصرخ مستغيثاً بالأمومة وحنانها، حاولت النهوض لمساعدته، لكنها لم تقوى على ذلك لكثرة الركا فوق جسدها الذي نسي آلامه مع سماعها استغاثة رضيعها، وهي تحاول جاهدة، بدأ صراخ رضيعها يخفت رويداً رويداً، إلا أن ساد من حولها السكون، وعادت من جديد إلى غيبوبتها لكثرة ما نزفت من دمائها، ومن شدة رعبها على رضيعها بعد أن اختفى صراخه وظناً منها أنه إستشهد وهي عاجزة عن مساعدته أو ضمه إلى صدرها.
أياً كان السبب، لم تستيقظ أم هاني من غيبوبتها إلا بعد عدة أيام في المستشفى، وبعد إلحاحها الشديد لرؤية أولادها، علمت أنهم استشهدوا، وأصبحوا رياحين في جنان الخلد...
رحلت أم هاني إلى البعيد، بالأمس القريب إلى براءة الطفولة التي تحلم بعيد الميلاد وسط الصواريخ المجنونة، والظلمة الحالكة من تاريخ وظنها...
عادت إلى الواقع، لتسأل نفسها ومن حولها، كيف سأواجه أبو هاني رفيق الدرب وشريك العمر، بهذا الخبر المشؤوم، كيف سأعلن له عن فشلي في الجهاد في سبيل أطفالنا والحفاظ عليهم وحمايتهم من أيدي قتلة الأنبياء والإنسانية، يوم يعود منتصراً في جهاده في سبيل الله على أعداء الدين والعرض والأرض والشرف.
لكن الله أراد أن ينهي تساؤلات أم هاني، ويبعد عنها هول تلك المواجهة، عندما علمت بعد يومين أن زوجها أبى هاني قد سبق أطفاله الثلاثة إلى جنان الخلد ليكون هناك في استقبالهم.
تسارعت الذكريات في خاطر أم هاني وأخذت بها إلى ولدها هادي يوم كان يريد أن يطلب من والده قالب حلوى ليدعوا رفاقه إلى حفل ميلاده، وهو لا يعلم أن والده دفع دمه وروحه على مذبح الوطن قرباناً ليحيا كل أبناء الوطن.
رحل أبا هاني، وهو لا يعلم أن أطفاله سيلحقون به، ليكونوا معه في ضيافة الرحمن، ليشاركوه الأجر والثواب، في دار البقاء تاركين خلفهم دار الفناء لأهل الغدر وخونة الأوطان.
في الذكرى السنوية الأولى لإستشهاد أبطال أم هاني الأربعة، وفي روضتهم أضاءت ستة شموع، وطلبت من أبى هاني أن لا ينسى طلب ولده هادي وأن يحضر له قالب الحلوى ويدعو له رفاقه ليحتفلوا معه في عيد ميلاده في جنان الخالق العظيم، وقالت له أن رفاق هادي كلهم ذهبوا معه من نفس المكان والتاريخ، وعلى الأيدي نفسها.
مواقع النشر (المفضلة)