عجيبــة
الكنيسة، هي المكان الوحيد الذي ظنه أهالي تلك البلدة الوادعة على تلال جبل عامل آمناً، تلك القرية الممثلة للعيش المشترك في ذلك الجبل بمسيحييها ومسلميها.
هذه القرية كغيرها من القرى والمدن اللبنانية من جنوبه إلى شماله مروراً ببقاعه، عانت الكثير من إجرام ذلك العدو الصهيوني الغاشم في حربه التي شنها على لبنان في تموز 2006 «عجيبة، مار جرجس ردّ عنّا». عبارة ترددها سمر ابنة البلدة حين تعود بذاكرتها إلى ثلاثة وثلاثين يوماً عاشتها مع ما يقارب المائة وعشرين شخصاً من أبناء بلدتها، وهي تنزل درج الكنيسة، تلقي بثقلها على عكازها وتقول «كل الرعبات ولا هالرعبة اللي شفناها بهالحرب».
هذه الحرب عادت بـ سمر إلى الوراء ودفعتها كي تلوذ كما الكثير من العائلات إلى الكنيسة المعروفة بحيطانها الدكّ وحجارتها الصلبة. كانت الكنيسة هي الملجأ الذي إعتاد أهالي القرية الإحتماء به عند الشدائد «تقليد» قديم رافق الكثير من الحروب من الأعوام 1970، 1973 و 1978 إلى الإجتياح عام 1982، وعملية عناقيد الغضب عام 1996 إلى حرب تموز 2006 حين عادت عقارب الزمن إلى الوراء حيث إحتمى 120 شخصاً داخل الكنيسة وقاموا بإقفال النوافذ بأكياس الرمل ظناً منهم أنها تقيهم همجية ووحشية الصهاينة.
إجتمع الجميع في قاعة واحدة إفترشوا أرضها بعشرات فرش الإسفنج. وبقيت السلوى الوحيدة لهم شاشة التلفاز الذي يتم تشغيله على كهرباء مولد الكنيسة في أوقات محددة توفيراً للمازوت.
يتابع الجميع نشرة الأخبار عند الساعة الثامنة مساءً بعدها تضاء الشموع معلنة إنتهاء وقت الرفاهية.
بين الجولة والأخرى من جولات القصف البربري التي ينفذها الحقد الصهيوني كان الأهالي يهرعون بسرعة البرق لإحضار ما تيسر من طعام وشراب ويعودون قبل أن يحين موعد جولة أخرى من القصف.
تقول نعمت: «الجميع ينتظر الموت بلأأعصاب مهترئة»، «كنت أتخيل أنهم سيقتحمون الكنيسة ويدخلون علينا». لكن الذي دخل الكنيسة صاروخاً حارقاً هذا ما تجيب به فهيمة إبنة الثمانين عاماً. وتضيف:« الدنيا شرقتت بالنار، هتكت حرمة الكنيسة بأيدي الكفار».
حيطان الدكّ التي كان يحسبها الأهالي أنها لا تمس، إنهارت تحت ضغط الصواريخ الذكية.
تجلس فهيمة لتستعيد ذكرياتها حيث كانت حين دخلت الصواريخ معبد الكنيسة وتعيد تمثيل المشهد وتقول:«كان أولاد إبني أمامي، كنت عم فتش بأصابعي على وجوهم، فجأة بلشت صرّخ وحسيت بيد شالتني، كانت ايد ابني يلي طمني وهدأ روعي وقلي إنو ضهر الأولاد وأخذني معو».
تشير فهيمة والحاضرين معها إلى صور القديسين التي احترقت داخل الكنيسة وفيها صورة العذراء المذهبة التي حولها الصاروخ إلى رماد أسود. ثقول سمر:«احترقت صورة العذرا وتحتها احترقت فرشتي وشرشفي اللي كنت بنام عليهم، هون كنت نام، دخيل إسمها العذرا احترقت صورتها بس ما حدا احترق من الناس».
تقفل نعمت باب الكنيسة وتعود إلى منزلها المحترق أيضاً، وتردد :«لا نريد أكل ولا شرب نحن أهل الضيع ما منموت من الجوع. بدنا بيوت قبل الشتا».
طوال الحرب بقي الأهالي في الكنيسة صامدون إلى جانب نشرات الأخبار، لكن بعد إستهداف الكنيسة هجر الأهالي قريتهم مرغمين، إلا أن المختار لم يستطع إقناع أم انطون وزوجة أخيها المصرتين على البقاء في منزلهم، رغم كل المحاولات لإصطحابهم، لا مجال للمواربة مع ام انطوان التي تجيب:« انو رح يجي عليّ الصاروخ دغري، اللي مكتوب بدو يصير».
مواقع النشر (المفضلة)