يصحبك كل صباح كظلك، في حميمية غريبة، ويأبى أن يتركك وحدك خشية الملل، ينتابك في خفة كطيفٍ حالم، تحسه يغسلك، من الداخل في نبل عميم، أو يدهمك بجحافله فيصيب قلبك بالكدر.. أحياناً لا تجد له مبرراً، وكأنه شيء طبيعي لا يحتاج إلى تفسير، وربما يكون رد فعلٍ خارجي يترك فيك انطباعه كأنه أثر.
يعرفه فيلسوف العرب الكندي بقوله:
- “ألم نفساني سببه فقد المحبوب، وفوت المطلوب” وذلك في رسالته الشهيرة “دفع الأحزان”، التي وجهها إلى صديق طلب منه أن يضع كتاباً يبيّن فيه للناس أن كل ألمٍ لا يعرف سببه لا يُرجى شفاؤه.
يقول وليم شكسبير: “عليّ نزع الحزن الدفين من الذاكرة، عليّ إزالة البلايا المغروسة في الفكر، عليّ وصف ترياق يجلب النسيان للنفس ليريح الصدر الطافح بتلك الأشياء الخطرة التي ينوء القلب بثقلها”، حيث يرى على لسان بطله التراجيدي “ماكبث” أن النسيان يستطيع أن يقهر الحزن، وربما يكون مصلاً واقياً منه حين يكفيه شر الوساوس السوداوية التي تهاجسه، وتقض مضجعه كل ليلة في تكرار كابوسي.
هناك أحزان موشومة، في الروح عصيّة على النسيان، تطل عليك كل ليلة في دأب وشغف، وتمارس ساديتها العجيبة في تلذذ معك، فهل يفلح النسيان في وأد تلك الأحزان؟!
بقايا الأ لم
“كل ساخر عظيم بداخله حزن أعظم منه” لأن السخرية والانتقاد بديلان تعويضيان عن المرارة التي يستشعرها الحزين، فتخرج منه الكلمات ملتهبة، ولاهبة كسوط حوذي قاسٍ، فالسعدني يرى أن الفقر والظلم يورثان في النفس حزناً غائراً، لا شفاء منه إلا بالتنفيس عن الذات بعبارات ساخرة، تترك على الشفاه ابتسامة تحمل بقايا الألم القديم.
لكن ألفرد دي موسيه له رأي آخر، حين يقول:
- “ليس يجعلنا عظماء غير حزنٍ عظيم” حيث يرى في الحزن مطرقة تدق بقسوة على عظام الإنسان، وهذا الألم النبيل الناجم عنها، يوّلد عظمة في روح الإنسان، وقدرة هائلة على التحمل، وإثبات الوجود، كأن الحزن تنور ضخم يطهرنا من شقائنا بالألم، وهي فكرة ترتبط ببعد ديني، حول ضرورة التألم من أجل خلاص الآخرين.
قوة روحية
ويتداعى معه عمر المختار، ربما بطريقة غير مباشرة، حين يعبر عن الحزن والشدة بقوله: “إنّ الضربة التي لا تكسر ظهري تقويه” وكأن هذا الإنسان الذي عرّكته الأحزان، أصبح جاهزاً ومعداً لتلقي أي نازلة حياتية مفاجئة، لأنه أخذ المناعة المكتسبة من الحزن، بل إنه يشعر بطعم الحزن، ويستسيغه، كما يقول الشاعر سيد حجاب في إحدى قصائده:
- “مزمزت حزني”
وكأنه يتلذذ بمذاقه، ويستأثر به لنفسه في أتون الحياة، وتتماهى صورة الحزن لتأخذ شكلاً أمومياً عند مبدع بقامة فؤاد حداد، حين يقول:
- “أَلِمْ همي في المسا وأرقد عليه”.
ويراه صلاح جاهين شائعاً، ووجوده شيء عادي، وضروري أيضاً حين يقول في إحدى رباعياته:
- “الحزن زي البرد.. زي الصُداع”
نبوءة عرّاف
ويطلبه شاعر آخر هو نزار قباني من حبيبته حين يقول:
- “علمني حبك أن أحزن، وأنا محتاج منذ عصور، لامرأةٍ تجعلني أحزن”
حيث يعتبره ظل الحب، وقرينه، ويتقمص قباني دور العرّاف في قصيدته “قارئة الفنجان” حين يسبر غور العاشق، ويعرف طالعه، ومصيره الحزين، قائلاً:
- “وسيكبر حزنك حتى يصبح أشجاراً”
وأغلب شعرنا العربي مراثٍ حزينة، وبكاء على الأطلال، حيث يقول الأعشى:
- “ودع هريرة إن الركب مرتحلُ وهل تطيق وداعاً أيها الرجلُ”
“غراء فرعاء مصقول جوانبها تمشي الهوينى، كما يمشي الوشى الوجلُ”
ويرد عليه امرؤ القيس، أثناء مروره بديار محبوبته فتهيج أحزانه، فيقول:
- “قفا نبك من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ بسقط اللوى بين الدخولِ فحوملِ”
واشتهرت الخنساء ببكائياتها على أخيها صخر، حتى قيل إنها ظلت ترثيه لمدة أربعين عاماً، حيث تقول في إحدى قصائدها:
- “وإنّ صخراً لمقدامٌ إذا ركبوا وإنّ صخراً إذا جاعوا لنحّارُ”
“أغرٌ أبلجٌ تأتم الهداة به كأنه علمٌ في رأسه نارُ”
بل يصل الحزن بها إلى ذروة اليأس، فتزهد بالحياة، وترفض الهناءة:
- “فيا لهفي عليه، ولهف أمي أيصبح في التراب وفيه يُمسي”
“فلولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي”
كبرياء ورجولة
وأفرد المنفلوطي له كتابيْن هما “النظرات” و”العبرات”، امتلأ بحزن شفيف يطهر النفس، ويظهر معرفة الإنسان لإنسانيته، واكتسابه الشجن النبيل، حتى إن شاعراً كبيراً هوعزيز باشا أباظة خصه بديوان، سماه “أنّات حائرة”، كتب قصائده كلها رثاء في زوجته الراحلة. تقول عنه ابنته الكاتبة عفاف عزيز أباظة:
- “اشتعلت النار فى قلب أبي بعد رحيل أمي، وأرسل آهة مدوية فى ديوانه “أنات حائرة” الذي
خصصه لرثائها والبكاء على شبابها، ومن الأبيات التي أكدت لي أنه لن يتزوج أبداً قوله: أقسمتُ لا آوي لغيركِ خلةً
عهدي إليكِ على المدى وذمامي
وكذلك قوله: سألقاكِ، لم يُشغل مكانٌ تركتهِ
ببيتي، ولم يُملأ مكانكِ من قلبي”
والحزن دفع شاعراً مغموراً مثل دوقلة المنبجي لكتابة قصيدة سميت باليتيمة، والسر في تسميتها بذلك كما زعم البعض أن الشاعر لم يكتب غيرها، من شدة حبه ولهف قلبه الحزين على حبيبته دعد، حيث يقول واصفاً إيّاها:
“ فالوجه مثل الصبح مبيض
والفرع مثل الليل مسوْدُ
ضدان لما استجمعا حسناً
والضدُ يظهر حسنه الضدُ”
ويقف الكبرياء كحائط صد أمام حزن كامل الشناوي، يحول دون دمعه الهتون، حين يقول:
- “لولا إبائي، لولا أنني رجلٌ لأخبرتك الليالي كيف أبكيكِ”
الأغاني كلها حزن، والمسلسلات مليئة بالنكد الأزلي، وعندما نضحك ونفرط في الضحك، تدمع أعيننا تماماً مثلما نحزن، ونتوجس دائماً خيفة من الإفراط في الفرح، ونقول “اللهم اجعله خيراً”.
ويعبر فيلسوف الأدباء زكي نجيب محمود عن الحزن في كتابه “قصة نفس” عن أحدب الروح الذي يحمل حزنه على ظهره فيحدبه ليرى السعيد الذي يبحث عن حزنه، وهي قصة فلسفية حزينة وشجية.
وشم الروح
ويتلبس الحزن كثيراً من الشباب، من دون أسباب معروفة، وكأنه وشم للروح لا يمكن التخلي عنه، يقول محمد ياسين “موظف”:
- الحزن إحساس جميل يغمر نفسي كثيراً، ويفجر بداخلي طاقات للابتكار، وهوفي حد ذاته شعور بفقدان الأحلام، حيث أشعر بأن يدي قصيرة، لا تصل أبداً إلى أشياء كثيرة أتمناها وأرغبها،حتى تبدد مني الحلم بها، وصارت عصية المنال.
- لذا فالحزن دائماً رفيقي في حياتي، وتعوّدت عليه، وعندما أفرح أشعر بتوجسٍ، ولا أطمئن حتى يعود إلي حزني.
- “الحزن شجرة تورق في ذات الإنسان، تنبت على شجنه، يتطهر بها من أدران الحياة.
إننا حين نحزن نشعر بإنسانيتنا، وضعفنا وحاجتنا إلى البوح والفضفضة، وكثيراً ما نخرج ما في جعبتنا للآخرين، فنحس براحة كبرى، وبأن كابوساً انزاح من فوق صدورنا فنبدأ بالتأمل، ومحاولة فهم ما يدور حولنا بهدوء يقترب من سكينة المتصوفين.
وتضيف علام: الحياة تبتهج بالحزن، وتعزف على نغماته ألحاناً مؤثرة في النفس، وهو ملهم للمبدع، وللإنسان الشفيف بكل ما هوجميل ونبيل.
مواقع النشر (المفضلة)