الشخص تنازعه نفسه البشرية على التميز، وتغريه بسلوك هذا الدرب كثير المسارب والمسارات، فهو أمر تألفه النفس وتحبه وتسعى للتربع على عرشه، فما تفتأ تطرق أبوابه وتسلك طرقاته علها تحظى بشيء من وهجه وألقه، وقد أورد الشعراء..
وهم ممن طرق أبواب التميز، العديد من الأبيات التي تلبسهم عباءته وتقربهم من نيل عرشه من خلال كلمات خلدها الزمن وتواترت بها الأجيال؛ ولعل من أجمل ما قيل في هذا المجال ما صدح به المتنبي معتداً بأدبه:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
وأسمعت كلماتي من به صمم
وقوله معتداً بذاته:
الخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلم
لكن ظاهرة التميز وحب المميز التي نعيشها اليوم اتخذت من أسهل الطرق وأرخصها مساراً، فانحسرت بشكل كبير في الرقم المميز واللوحة المميزة والسيارة والقصة وغيرها؛ فلا عجب أن ترى سيارة تأخذ شكل الحشرة بألوان زاهية تجوب الشوارع ربما دفع صاحبها على تمييزها أغلى من ثمنها، ولا غرابة في أن ترى هوس رقم اللوحة المميز أو الهاتف النقال يستنزف الجيوب، وترى الشكل الشاد البعيد كل البعد عن الأناقة أضحى تميزاً!! فكثيراً ما تطرق كلمة (مميز) حياتنا، وتزاحمنا في طرقنا، وتلج إلى بطوننا، وتلامس أجسادنا، ولربما ندوس عليها بأقدامنا، فهي دائماً توهمنا بأننا بفعلنا سنلج عالم التميز ونخالط الفئة الخاصة والمميزة، ولو نظرنا بقليل من التأمل لوجدنا أننا لا ننال من صفة التميز إلا بقدر مضمون ما تميزنا به، فليس أسهل على شخص آتاه الله المال أن يجعل من مركبته قطعة فنية تتلألأ، ولا تميز في ذلك فهو أمر ساقه له وافر المال، وليس أسهل على شخص وجد نفسه في عالم يولد فيه مع كل حركة لعقارب الساعة فنان أن يصرخ ويتمايل.. وليس أسهل على من أسلم رأسه لمجزات النحاتين أن يخرجوا من رأسه تحفة تضاهي برج إيفيل أو بيزا، وقس على هذا ما شئت من مظاهر التميز التي لا تتجاوز القشور، وهذا في حقيقته ليس سوى برق لاح واختفى دون أن يخلفه مطر يمكث في الأرض فينفع الناس.
إن التميز الحقيقي هو ما كان غيثاً يسقي الأرض فينبت الأشجار الباسقة التي تحمل الطيبات وتغدق بها على من مر بها إن لم ينله من طيب ثمرها ناله من نعيم ظلها.. التميز الحقيقي في عالم علمه يعيش أضعاف أضعاف عمره... ومخترع اختراعه يحمل من بعده على كفوف الرفاهية والراحة.. وشاعر كلماته تبقى أثراً في قلوب من مر بتجاربه.. وكريم نفس كرب المكروبين... التميز الحقيقي أن تجعل هدف تميزك أياً كان هذا التميز نفع مجتمعك وتخليد ذكراك كي يولد من رحم التميز (مميز) يحمل نفع التميز لا (مميز) يحمل وبال التميز.
إن المتطلع للتميز يراه كمدينة تلوح بأضوائها المتلألئة أمام عيني المسافر في جنح الظلام، فيرى هذا الوهج وتلك الهالة المحيطة بها ليظنها حجراً كريماً من أحجار السماء احتضنته الأرض، حتى إذا ولجها رأى فيها من القبح بقدر الجمال.. ففيها المعالم الفارهة التي تتوارى تحت ظلها الأحياء الفقيرة.. وفيها من العشوائية بقدر ما فيها من التنظيم.. وفيها من الأحجار بقدر ما فيها من الأزهار.. ومن الغربان التي تأكل فضلة الضواري بقدر ما فيها من ملذات الحياة وطيباتها.. وفيها تتراص الأمكنة تحمل درجات من الطبقة المخملية حتى السحيقة.. مدينة من أراد أن يدخلها وجب عليه أن يعلم أين سيكون ومن سيكون؟
مواقع النشر (المفضلة)