كان يقف في باب " المنزول " وهو في حالة غضب شديد ، وقد خلع عمامته وبشته ، وامسك
بالسوطيهزه بعنف . وكان الرجل صاحب راس كبير ، وله عينان واسعتان مستديرتان كعيني ام قويق .
ولحيته تتدلى على صدره وفكه الاسفل يرتعش ، وجسمه الضخم يرتجف ،وراح يسب ويلعن ويقول:
- كيف يجرؤ هذا الجرو الصغير على شتم حفيدي ! انها الطامه الكبرى ! لعن الله امه الخائته واباه
المفصوع !!
وأرسل الناطور لاستدعاء والده ، انه لم يأت بعد ، ومتى حضر الشيخ العجوز سوف يلقى جزاءه على
سوء تربية جرائه ، عليه ان يعلمهم ان العين التي تنظر الينا شزرا سملناها ، واللسان الذي يجروء على
شتمنا قطعناه ! واليد التى تمتد الينا غدرا بترناها !!!
والمنزول في البلد كان اشبه بقبو واسع كبير ، يقسم الى قسمين : فالاول - ديوان ضيوف القرية
والغرباء . والثاني - اسطبل للخيل والبهائم . فلقد كان في كل قرية منزول ايام الحكم العثماني ، هو
مأوى الغرباء والضيوف الذين يفدون اليها في عمل او شغل او مهمه !!
والجنادرة يبيتون فيه ، والمبيضون يتخذونه منزلا ، والبرامكه والنور يقصدونه . وفيه يصيبون
طعامهم وشرابهم . وتنعم البهائم بالشعير والتبن ، يقدمه اهل القريه بالتناوب . وامام المنزول دكة
امامها ساحة كبيرة هي ساحة البلد ، ومنتدى الرجال . يجلسون على الدكة في اوقات فراغهم . في
الصباح وعند المساء ، مع شيخ البلد والناطور ورجال الشيخ الذين يعتمد عليهم عند المهام والامور
الصعبة . يقومون في حراسة الدار وتنفيذ اوامره ، وانزال العقوبات التي يراها مناسبة ، فكان بيته سجن
القريه .
وفي كل بلد شيخ ، هو ظل الوالي وشبح السلطان ، يسوس الناس ، ويقضي بينهم بالقوة ، ويطيل
النشوة ، ويقبل الرشوة . فلا مظالم ترفع ، ولا شكاوي تقدم الا بامر من الحاكم المطلق في القرية ، من
شيخها . ولم تكن الحكومة تنظر في الدعاوي والمظالم انذاك الا اذا قدمها شيخ البلد ، ورفعها بنفسه ،
وطالب بانزال العقوبة ونوعها . هذا اذا استعصى عليه الامر !! وكان يقدمها ضد من يتمرد ويفر من
قضائه . وكان السجن في عكا ، واللومان مأوى لهؤلاء المتمردين والعصاة . يسامون فيه سوء العذاب .
ويقضون زهرة ايامهم . يتخرجون منه اكثر وحشية واشد نقمة وعنادا من قبل ما دخلوه !!
وكان البعض منهم يفر ويترك زوجته واولاده الصغار تحت رحمة الحاكم المطلق ، وتحت قسوة
الجوع والالم ووطأة البرد والحر . وتجد السلطه في طلبه ، وبعد سنوات يرجع ويلاقي امامه بدل الجزاء
الواحد جزاءين . وكان البعض الاخر يفر ليلا مع اسرته ولسان حاله يقول : بلاد الله واسعة ! ويترك
وراءه كل ما يملك من حطام الدنيا ، وكوخا تسرح فيه الفئران ، وتتجول فيه الصراصير والدوبيات ..
وظهر اخيرا في الطرف المقابل للساحة كهل كعود الحطب ، محدودب الظهر ، منحني الراس ،
بطيء الخطى كسائر في جنازة ، وعلى وجهه النحيف غضون سمراء تدل على السآمه والعياء الشديد ،
يجر رجليه بتثاقل ..... وعندما استدعاه الناطور ، حسب لذلك الف حساب ! فالشيخ والقسوه
والظلم والاهانه والفلقه كلمات مترادفه ولكن ما العمل !! وهو رب البلد وحاكمها القوي الجبار
الذي لا يرد له حكم ، واهب الحياة والرزق لمن يشاء من ابنائها !!
لم يعرف فرهود السبب لهذه الدعوة ، مع ذلك فقد احس بالرجفة تسري في بدنه . ولما وصل امام
شيخ البلد تقدم منه ذليلا ،كسير الفؤاد . لكن الشيخ بصق في وجهه كلما قد تحلب في ريقه في دقائق.
وضربه بالسوط وشتمه ، وصاح به مستغربا دهشا : كيف يجرؤ جروك الصغير على شتم حفيدي
الطاهر الشريف يا بهيم !!! وغمز رجاله فتقدم اليه بعض رجاله الذين انتقاهم من الشبان ، غلاظ
القلوب لا يعرفون الرحمة . زبانية الشيخ وانهالوا على المسكين لطما وصفعا حتى سقط وتكور جسده
على الارض ، يتلقى الضربات . ولم يسمع منه غير همهمة وانين متواصل ! ثم صاح بهم الشيخ
اتركوه وليرحل عن بلدنا الى جهنم !!!
قام المسكين بعد جهد كبير متثاقلا ، وجمع بعضه على بعض ، ونكس راسه ، واستطاع ان يمسح
ما تبقى من اثر البصاق في وجهه . ومشى الرجل الى بيته يجر ذيول الخزى والعار لكنه يحمل في صدره
الالم والحزن والقلق والثورة المكبوتة التي ما يفكر بها الا ويشعر انه عاجز . لقد قال شيخ البلد كلمته ،
فليفتش له عن بلد اخر . واين سيجد المأوى والمسكن ! اين يذهب ! واين يقيم ؟! لقد ضاقت الدنيا
في وجهه مع سعتها ! وبجهد استطاع ان يعي ان له في بلد بعيد بعض الاقارب وفكر بالنزوح اليهم ...
وكان ابن العجوز فرهود يلعب في الحارة ، مع بعض الصبية امام الاكواخ المتداعية على اصحابها.
ومر بهم حفيد الشيخ ، شتمهم بدون مبرر ولا سبب ، واقترب من ابن فرهود اقرب صبي اليه ، ودفعه
قائلا : انت حمار !! واحس الصغير بالاهانة امام اترابه فما كان منه الا الجواب : انت ستين حمار !!
وهم بضربه الا انه لم يكن يدري من اين اتاه الضرب ، حتى ابناء الفلاحين والفقراء صفعوه وقذفوه
بالحجارة مع حفيد شيخ البلد ....
سمع الجبار القصة من حفيده المدلل ، ونقلها له الرجال ، تشفيا من فرهود ، ذلك الرجل الذي
كان يدأب على عمله في الصباح ، ويعود في المساء . انه حطاب يقطع الحطب من اشجار البلوط
والخروب والعبهر ويحملها على حمار له اشهب ، ويبيعها في المدينة لاصحاب الافران ... ويرجع منها
الى البيت ، الى كوخه يحمل الخبز لاسرته ، والعلف لحماره ، الذي كان يقول عنه دائما : انه يده
ورجله !!
ومع المساء ، مالت الشمس للغروب ، كما اعتادت ان تميل وانحدرت بين غيمتين ، والفلاحون
عائدون من حقولهم وغيطانهم ، يسحبون البهائم ، ويحملون عشاءها فوق الحمير والبغال . وارتفعت
سحب الدخان من اسطح البيوت ، بيوت الطين والاكواخ وسقوفها ، وهب النسيم مثقلا برائحة
الزيت والعيش ، وصعدت النساء فوق السطوح ، وجهزن الطعام بعد ما انتهين من علف الدجاج
والبهائم . وجلست الاسر حول اطباق الطعام تلتهمه ، وفي تلك اللحظه سقطت الشمس وراء البحر
بالقرب من راس الناقوره ، كدمعة حمراء ، ملتهبة كالدموع المتساقطه على وجنات فرهود واسرته ....
خيم الظلام على الارض وفرش اجنحتة على الهضاب والآ كام والحقول والبيوت ، وتمدد الناس
في فراشهم بعد تعب النهار الطوبل دون حراك . وفي الطريق الوعر كان فرهود يسير ويتعثر وراءه ابنه
ومعه افراد اسرته وحماره ، والدموع تنحدر من العيون حمراء ساخنة !!!
مواقع النشر (المفضلة)