قصه قصيره ... من روائع الدكتور : نبيل فاروق
__________________________________________________ ________________________
انطلق ( حسن غنيم ) بسيارته , و هو يهمهم بكلمات ساخطة غاضبة , كان قد خسر منذ قليل واحدة من الصفقات التي بنى أحلامه عليها .
و في حنق هتف :
- لماذا لا أصبح مليونيرا ؟! .. لماذا لا أصل إلى ما وصل إليه غيري ؟
لم يكد ينطق عبارته هذه حتى أضيئت الدنيا كلها أمامه بغتة .. في البداية تصور أنها سيارة قادمة أو شئ انفجر , ثم لم يلبث أن انتبه إلى فجوة عجيبة تكونت في الهواء ..
و خلفها كان المشهد مذهلا .. كان هناك طريق ممهد و آلات طائرة , و أشياء أخرى مبهرة لم يفهم ماهيتها و إن أدرك على الفور أنها نتاج تكنولوجيا مذهله لم تبلغها حتى الولايات المتحدة الأمريكية نفسها ..
وسط كل هذا كان هناك رجل .. يرتدي ثيابا عجيبة و يمسك بيده شيئا يشبه الجريدة ..
و في ذعر حدق كل من ( حسن ) و الرجل في وجه الآخر قبل أن يضغط ( حسن ) فرامل سيارته بكل ما يملك من قوة و يتراجع الرجل في حدة و رعب ..
ثم دوى ما يشبه الانفجار ..
انفجار مكتوم تردد في أذني ( حسن ) قبل أن تندفع عشرات الأشياء لترتطم بمقدمة السيارة ثم يهدأ كل شئ و يعود الظلام إلى المكان ..
ولثوان ظل ( حسن ) داخل سيارته ذاهل العينين شاحب الوجه ثم لم يلبث أن هتف :
- ما هذا بالضبط ؟
استجمع شجاعته و غادر السيارة و تطلع أمامه في توتر حيث كانت الفجوة ثم التفت إلى مقدمة سيارته وزجاجها و قد تناثرت فوقها أشياء شتى نصفها بالغ الغرابة بالنسبة إليه .. و لكن أكثر ما جذب انتباهه تلك الجريدة ..
و في حذر مد يده يلتقطها .. كانت جريدة الأهرام و لكنها مطبوعة على شئ يشبه الكاوتشوك له ملمس رخو مريح وكل الصور و الرسوم بها مجسمة مطبوعة بأسلوب عجيب حتى لتبدو حية متحركة ..
و بسرعة قلب ( حسن ) الجريدة ليقرأ تاريخ صدورها ..
ثم شهق في انبهار ..
كان تاريخ صدور الجريدة هو الثالث من نوفمبر عام ألفين و أربعين ..
و هتف ( حسن ) بكل الانفعال في أعماقه ..
- رباه !.. لقد خشيت مجرد التفكير في هذا و لكنها حقيقة .. حقيقة تشبه ما نشاهده في أفلام الخيال العلمي .. لقد انفتحت فجوة بيني و بين المستقبل .. فجوة قذفت كل هذه الأشياء بين يدي ثم تلاشت..
كان جسده يرتجف في انفعال و انبهار و لكنه أسرع يجمع كل تلك الأشياء التي قذفتها فجوة المستقبل و انطلق إلى منزله في القاهرة ..
و في حجرته راح يلتهم تلك الجريدة التهاما .. قرأ كل الأخبار و المقالات و حتى الإعلانات .. وتضاعف انبهاره أكثر و أكثر .. كان يجوب المستقبل دون أن يبارح مكانه ..
حتى أنه هتف :
- يا للروعة ! .. لن يصدق مخلوق واحد ما حدث لي .. إنها معجزة .
قلب الصفحة الأخيرة للجيدة و تطلع في اهتمام إلى صورة لشيخ و قور بدت له مألوفة إلى حد كبير فتساءل عن اسم صحبها و..........
و فجأة و ثب من مكانه وهو يطلق شهقة قوية .. وأسفل الصورة قرأ بحروف مضيئة عبارة تقول :
- توفي أمس المليونير المعروف ( حسن غنيم ) و سيقام العزاء في قصره في ( مصر الجديدة ).
إنه هو ..
إنه يقرأ خبر وفاته ..
ارتجف جسده و ألقى الجريدة جانبا وراح يلهث في انفعال.. ليس من السهل أبدأ أن يقرأ خبر وفاته حتى و لو كانت هذه الوفاة ستحدث بعد أكثر من خمسة و ثلاثين عاما
ثم فجأة انتبه إلى الأمور الأخرى ..
لقد و صفته الجريدة بأنه مليونير معروف يمتلك قصرا في ( مصر الجديدة ) ..
لقد نجح إذن ..
أو سينجح ..
لقد عرف هذا الآن ..
راح يطلق صيحات ظفر و سعادة و هو يقرأ الخبر مرات و مرات و ابتسامة واسعة تلتهم وجهه كله ..
إنه سيصبح مليونيرا ..
هكذا يقول المستقبل ..
و الأعظم أنه يعرف بالتحديد تاريخ و فاته ..
فقال في حزم :
- لا خوف بعد اليوم إذن .. الموت بعيد عنى تماما .. بعيد بأكثر من خمسة و ثلاثين عاما .
و في اليوم التالي بدأ ( حسن ) صفقاته الناجحة ..
كان واثقا من النتائج بعد ما قرأه في جريدة المستقبل ..
و لأول مرة ربح صفقة كبيرة .. ثم ثانية .. وثالثة .. و رابعة ..
و طوال خمسة أعوام لم يخسر ( حسن ) صفقة واحدة و صار ثريا و معروفا ..
ثم اشترى ذلك القصر في ( مصر الجديدة )
و ذات يوم كان يقود سيارته الجديدة و إلى جواره خطيبته التي شعرت بالخوف من تلك السرعة الفائقة التي يقود بها فقالت :
-( حسن .. أرجوك .. لا تقد السيارة هكذا .
أطلق ضحكة عالية وهتف :
- لا تخافي لن نموت الآن .
زاد من سرعة السيارة أكثر و أكثر بلا خوف ..
و فجأة ظهرت تلك السيارة الضخمة و حاول أ يضغط فرامل السيارة .. و لكن الاصطدام حدث .. و اظلم كل شئ من حوله ..
لم يدر كم ظل فاقد الوعي و لكنه استعاد و عيه مع آلام رهيبة تسري في جسده كله فحاول أن يتحرك و لكنه عجز عن هذا تماما ..
ثم سمع صوتا إلى جواره يقول :
- خطيبته لقيت مصرعها على الفور أما هو فما زال على قيد الحياة .
كانت الآلام عنيفة و لكنه أدرك أن الذي يتحدث هو طبيبه الخاص و حاول أن يشرح له آلامه و عذابه و لكنه لم يستطع النطق في حين سمع صوت شقيقه يقول :
- و كيف حاله الآن ؟
بدا له صوت طبيبه مفعما بالأسى و هو يقول :
- إنه أشبه بالموتى فهو في غيبوبة تامة لا يستطيع الحركة أو النطق .
سأله شقيقه في هلع :
- و هل تعتقد أنه سيشفى ؟
أجابه الطبيب في مرارة :
- إنها حالة مجهولة لم يشف منها شخص قط .. الأرجح أنه سيقضى ما بقى له من العمر في هذه الحالة ..
صرخ ( حسن ) :
- و لكنني حي .. أشعر و أسع .. أنا أسمعكما .
و لكن صرخته هذه لم تتجاوز أعماقه ..
لم يسمعه أحدهما ..
أو حتى يشعر به ..
و تصاعدت الآلام ..
و اشتد العذاب ..
و هتف ( حسن ) لنفسه :
- ألن ينتهي هذا العذاب أبدأ ؟ .. رباه !.. كم أتمنى الموت لينتهي العذاب و الآلام .
لم يكد يفكر في هذا حتى انطلقت صرخة في أعماقه ..
صرخة تموج بالرعب و الهلع ..
لا .. لن ينتهي العذاب ..
هو وحده يعلم هذا ..
أمامه ثلاثون عاما أخرى من العذاب ..
ثلاثون عاما حتى يموت ..
و انهارت أعماقه في يأس ..
لقد فقد حتى الأمل ..
الأمل في أن ينتهي عذابه بالموت ..
و ترددت في أعماقه صرخة مريرة ..
ليتني لم أعلم ..
ليتي لم أعلم الغيب ...
و ظلت هذه الصرخة تتردد و تضاعف العذاب طوال ثلاثين عاما أخرى ..
و بلا توقف ..
مواقع النشر (المفضلة)