حينما تفكر في اللحظة التي أنت فيها، وتتلفت حولك لترى وتسمع وتلمس، ستكتشف أن أغلب ، إن لم يكن كل، ما حولك، على ما فيه من دقة وإبداع وجدارة اهتمام، إنما هو في الحقيقة آثار من غابوا: أولئك الذين رحلوا وتركونا مع هذه الآثار الغنية في اختلافاتها وتنوعها، لنستمتع بها كيفما شئنا ومتى أردنا، نملأ بها حياتنا القصيرة في الوجود.
ولحظة كهذه يجري فيها التفكُّر على هذا النحو بالمرئيات والمسموعات لها أكثر من تأثير في النفس البشرية. فهي من جهة مادة يستمتع بها المرء ويبتهج، مدخلا السرور على قلبه ومنقذا نفسه من كدرها اليومي. ومن جهة ثانية هي مادة لا تخلو من جانب تراجيدي له أثره السلبي وربما المحزن الذي سيحتل مساحة كبيرة من المشاعر لدى الفرد.
من الدلائل الكثيرة على ما ذهبنا إليه، استماع الشخص إلى مجموعة من الأغاني العربية، على سبيل المثال المرحوم عبدالحليم حافظ وأم كلثوم وعبد الوهاب وغيرهم كثير فضلا عن مثلهم وأكثر من الموسيقيين الكبار. أو مشاهدة الشخص لمجموعة من الأفلام البديعة سواء تلك التي بالأبيض والأسود أو الملونة، عربية وعالمية، ليرى عشرات الممثلين المبدعين الذي غادرونا أمثال ليى مراد وشكري سرحان وعماد حمدي ورشدي أباظة وسعاد حسني وغيرهم العشرات من مختلف أقطارنا العربية الجميلة. أو استعراض مئات المسرحيات واللوحات التشكيلية الفنية والمقطوعات الشعرية البديعة والكتابات النثرية والمسرح والكتابات الإنسانية في شتى أنواع المعرفة والثقافة والفكر الإنساني عموما. أما الآثار المعمارية تلك التي تتجلى فيها الهندسة المعمارية البديعة، فهي الأخرى فقط تحاصرك أنىّ تيممت، ليس الأسوار والجدران وقصص وحكايات تشييدها، والقصور والمساكن والمدن والجسور والقنوات المائية والنوافير والنصب التذكارية والمعالم المختلفة الأخرى فقط، إنما يحاصرك من خلالها الأشخاص الذين شيدوها، تكاد ترى ملامحهم فيها تنطق بتاريخ مرحلتهم الزمنية، وتحكي لك عما كان وكيف كان وبماذا طبعت تلك المرحلة من تاريخهم؟
أنت محاصر بالغائبين عبر آثارهم، بمعنى أنك تتمتع بآثار الراحلين، لذلك فأنت تعاني من مزيج من المشاعر واللواعج أمام حالة نوعية كهذه، فمثلا أنت تشعر أولا بأنك لا تضف في الراهن إلى حياتك شيئا، لكي على الأقل يتمتع به الآخرون كما تفعل أنت الآن وتتمتع، أو على الأقل لا تضيف شيئا يكون بمثابة مكافأة للذين رحلوا وأولئك الذي سيأتون من بعدك، ليس ليذكروك بخير فقط، إنما لكي لا تتسبب بحدوث مساحة فارغة فتقطع ما اتصل.. لا تحدث هوة قطيعة معرفية وثقافية تكون أنت بطلها البائس. وتشعر ثانيا وتفكر كيف كانت حالتك النفسية ستكون عليه لو أن الذين رحلوا لم يتركوا لك كل هذا التراث الضخم والغني الذي غطى كافة نواحي الحياة.. كم كانت حياتك ستكون فارغة ونفسك حائرة أقرب إلى الجنون منها إلى الهدوء لو لم يتركوا لك هذه الكنوز الثقافية والفنية التي شكلت المفاتيح المهمة بالنسبة لك لفتح مغاليق الجهل وتعريفك بالوجود والكون وخصَّبت مخيلتك.. إنها القصة التي لا تنتهي فصولها.
مواقع النشر (المفضلة)