المحراب قمة التجليات الإيمانية
ظهر المحراب للمرة الأولى في المسجد النبوي في المدينة المنورة وانتقل منه إلى مساجد البصرة والكوفة والفسطاط، ومنها إلى سائر المساجد على امتداد العالم الإسلامي.
تكاملت فيه فنون العمارة الإسلامية واجتمعت عناصرها الزخرفية من أعمدة وأقواس وألوان ومشغولات خشبية وخزفية وزجاجية وجصية ورخامية، وآيات قرآنية وأشكال هندسية وتشكيلات بنائية، فبدا كأنه قمة العبقرية والتجليات الإيمانية، حيث صنع مع المنبر تشكيلا جميلا تستريح له العيون والقلوب.
والمحراب هو المكان المجوف الذي يقع في صدر المسجد ويقف فيه الإمام متجها مع المصلين نحو القبلة تجاه الكعبة المشرفة.
ومن معاني الكلمة الحجرة، أو الحجرة العالية، أو مكان العبادة، أو المكان الطاهر، أو مقدمة البيت، أو صدر المجلس وأكرم موضع فيه، أو عرين الأسد، أو المحارب الشجاع.
كان المسجد النبوي بغير محراب، وكانت القبلة تجاه المسجد الأقصى لمدة 16 أو 17 شهرا، قبل تحويلها إلى الكعبة في نصف شعبان من السنة الثانية للهجرة.
بني المسجد النبوي على أرض مربد التمر في المكان الذي بركت فيه ناقة النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة الشريفة، وكانت ملكا لغلامين يتيمين (سهل وسهيل) اشتراها منهما النبي الكريم صلى الله عليه وسلم. ومربد التمر هو مكان تجفيفه وتخزينه، وقد وضع النبي الحجر الأول في جدار القبلة، ووضع أبو بكر الحجر الثاني ووضع عمر الحجر الثالث وواصل الصحابة رفع البناء الذي استغرق سبعة أشهر.
كان البناء بسيطا مساحته 70 * 60 ذراعا والذراع مجموعة من المقاييس تتراوح بين 50 و70 سنتيمترا وأشهرها الذراع الهاشمية وطولها 64 سنتيمترا.
المحراب المجوف
كان جزء من المسجد مكشوفا والجزء الآخر مسقوفا بأعمدة من جذوع النخل.
وقد سار المسلمون على المنهج نفسه في بناء مساجد البصرة (14ه)، والكوفة (17ه)، والفسطاط (عمرو بن العاص) (21ه)، وقد خلت من المحاريب والمآذن والمنابر.
أرسل الخليفة الأموي الوليد بن عبدالملك (88 96ه) إلى عمر بن عبد العزيز عامله في المدينة يكلفه بعمارة المسجد النبوي وزيادة مساحته وحملت الإبل المواد الخام من دمشق إلى المدينة، وكان عمر بن عبد العزيز أول من استحدث المحراب المجوف في صدر المسجد.
وفي القرن العاشر الهجري خلال العصر العثماني أقام السلطان سليم الثاني محرابا جديدا لا يزال قائما حتى اليوم يقع غرب المنبر النبوي، وقد أطلق المسلمون اسم المسجد على مكان العبادة وأطلقوا اسم الجامع على المسجد الكبير الذي تصلي فيه القبائل والجماعات.
وفي العصر الأموي اتخذ مصطلح المسجد الجامع مدلولا سياسيا، وأطلق على الجامع الرسمي الذي يؤم فيه الخليفة المصلين.
وكانت معظم المساجد في القرن الرابع الهجري عبارة عن صحن مكشوف تحيط به الأروقة من ثلاث جهات، أكبرها رواق القبلة. اتخذ المسجد الشكل المربع في العراق وإيران، والمستطيل في مصر والشام وشمال إفريقيا، وقيل إن السبب هو أن دور العبادة السابقة اتخذت الشكل نفسه في هذه البلاد.
وفي مصر أمر الوالي قرة بن شريك بعمل المحراب المجوف بجامع الفسطاط على غرار محراب المسجد النبوي.
وفي سنة 442ه في عهد الخليفة الحاكم بأمر الله الفاطمي تم عمل رواقين بصحن الجامع ومحراب من خشب الساج الهندي، وبهذا المحراب بدأ عصر المحاريب المتنقلة وكان يستخدم في فصل الصيف.
كما أمر الخليفة المستنصر بالله بعمل مساحة من اللون الفضي في صدر المحراب الكبير وأطواق فضية للعمودين.
وبعد حريق الفسطاط سنة 564ه خوفا من استيلاء التتار عليها جدد صلاح الدين الأيوبي عمارة الجامع سنة 568ه، وأعاد بناء الجهة الأمامية والمحرابين والمحراب الكبير الذي غطاه بالرخام وسجل اسمه عليه.
وفي عملية الترميم الأخيرة التي جرت لجامع عمرو بن العاص ظهرت المحاريب الثلاثة في أبهى صورة بزخارفها الخطية والهندسية والنباتية.
مدارس الأزهر
يشتمل الجامع الأزهر على 13 محرابا غير المحاريب الثلاثة في المدارس الملحقة به: محرابان بإيوان القبلة الجديد الذي أضافه عبدالرحمن كتخدا، المحراب الكبير ويصلي فيه إمام الجامع الصلوات الخمس وأمامه 6 أعمدة ترتكز على قبة تغطي المحراب، والمحراب الصغير ويقع شمال المنبر ويشتمل على الكثير من الزخارف الجصية والهندسية والنباتية ويعرف بقبلة الشيخ الدردير.
وفي إيوان القبلة القديم يقع المحراب الأصلي القديم الذي ينتهي عنده المجاز أو الممر الذي يبدأ من صحن الجامع، ويقسم أروقة إيوان القبلة إلى قسمين متساويين، ويكون عموديا على القبلة، ويمتاز إيوان القبلة بارتفاع سقفه عن الأروقة الجانبية ويعرف بالمحراب القديم ويصلي فيه إمام آخر للجامع، ولا تزال الزخارف الجصية الدقيقة التي أمر بها السلطان الظاهر بيبرس قائمة حتى الآن.
وكان بالإيوان القديم قبلة إلى الغرب من باب الشوام كانت تعرف بقبلة الشيخ الباجوري شيخ الأزهر الذي كان يكثر من الصلاة بها.
وبالقرب من رواق الشراقوة قبلة صغيرة من الخشب تعرف بقبلة الخطيب الشربيني تحيط بها لوحات بالخط النسخي ترجع إلى سنة 627ه.
وكان في صحن الجامع أربعة محاريب صغيرة أحدها يلي رواق معمر، منقوش عليه اسم مجدّده، ويقع بالغرب من باب المجاز بإيوان القبلة محرابان منقوش على أحدهما بالخط الكوفي “لا إله إلا الله محمد رسول الله”.
وبالقرب من الباب الثاني لإيوان القبلة محراب عليه اسم السلطان قايتباي. وكان في رواق الأتراك محراب صغير مغطى ببلاط القاشاني.
وبالمدرسة الطيبرسية (نسبة إلى الأمير طيبرس) (709ه 1309م) محراب مزخرف بالفسيفاء الرخامية والأعمدة الخزفية ذات ألوان نادرة، يعد آية في الدقة والإتقان.
وفي المدرسة الأقبغاوية (نسبة إلى الأمير أقبغا) (740ه 1339م) محراب مزين بالفسيفساء الذهبية والألوان الزاهية وهو من أجمل محاريب المساجد المصرية.
وفي المدرسة الجوهرية (نسبة إلى الأمير جوهر) (844ه 1440م) يشتمل المسجد ومحرابه على مساحات كبيرة من الزخارف المزينة والنباتية والأشرطة الخطية المطعمة بالصدف والعاج والأبنوس وتعد تحفة أثرية ومعمارية نادرة.
ومن المحاريب التي عرفت بزخارفها الرائعة محراب مسجد “حجة أحرار” في سمرقند.
جذبت عمارة المحراب وزخرفته أفكار النقاد والمتخصصين والفنانين في العالم أجمع ومنهم الفنان الفرنسي موندريان الذي عاش خلال النصف الأول من القرن العشرين بين باريس ولندن وتوفي سنة 1944م، وقد مالت أعماله نحو التجريد والابتعاد عن محاكاة الطبيعة وتأثرت بالعناصر الزخرفية الإسلامية خاصة الموجودة على محاريب المساجد في مصر وسوريا وتركيا وإيران.
بحث موندريان في أعماله عن العلاقة بين الخطوط والألوان كما بحث عن الجمال الذي يكشف عن تلك المقدرة الكونية الكامنة في كل الأشياء.
ورد ذكر المحراب في القرآن الكريم خمس مرات في أربع سور، في سورتي آل عمران ومريم خلال الحديث عن زكريا عليه السلام الذي دخل على مريم البتول في خلوتها ورأى ما عندها من رزق الله عز وجل، فدعا ربه أن يرزقه الذرية الصالحة، وفي سورة سبأ خلال الحديث عن نعم الله على سليمان عليه السلام حيث سخر له الريح تجري بأمره، والجن يأمرهم فيطيعون وينهاهم فينتهون.
كما ورد في سورة “ص” عندما تسلق الملكان على داود عليه السلام وتقدما إليه كخصمين بغى أحدهما على الآخر:
“فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ. هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ” (آل عمران: 37 39).
“فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً” (مريم: 11).
“يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ” (سبأ: 13).
“وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ. إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصِّرَاطِ”(ص: 21 22).
وطبقا للمبدأ الإسلامي في ترشيد الاستهلاك والبعد عن الإسراف، استخدم الفنانون المسلمون خامات بسيطة حققوا بها نتائج باهرة في زخرفة محاريب المساجد، منها الخشب المخروط والزجاجي والجص والرخام وعلى مدار القرون والأعوام قدموا نماذج فريدة وجديدة ومتجددة منها.
ويبقى المحراب وحدة معمارية وزخرفية منفصلة تمثل قيمة فنية وزخرفية في حد ذاتها ومتصلة بسائر أجزاء المسجد في تكوين رائع بديع.
مواقع النشر (المفضلة)