حين لا اكتفي بنظرة واحدة، لا اقصد مطلقا نظرة العين. فالعين محكومة بالعاطفة والهوى والمزاج. يمكن بنظرة واحدة ان نعجب او نحب، او نقع في مطب الانطباع الاول وننزلق في حفرة التسرع، حيث لا مخرج سوى الندم. النظرة الاولى كالحب برمته، تغفر ما يتكشف لنا لاحقا من عيوب وتسامح ما يرتكب في حقنا من اجحاف، وتستنكر دوما ان نرى عكس ما تريدنا ان نراه. متطرفة ثابتة آثمة في حقنا.
وستحكمنا وتتحكم بقلوبنا 'وعذرنا ان في وجهنا نظر'. قوة اسطورية درامية فقط تستطيع ان تمنح يدك القوة لاقتلاع عينك، في الواقع من الاسهل ان تؤذي اي عضو آخر في جسدك، ويكفيك كم من حبوب وجع الرأس او رصاصة واحدة لينتهي كل شيء!
دعك من النظرة الاولى العاطفية حاليا وابقها لحنا لأمسيات الجفاف لتعيد لك الاحساس بالمطر.
ولا اتحدث عن النظرة الاولى من منظور اخلاقي او ديني. تلك التي تكون من حقك وأي نظرة لاحقة بعدها تحسب عليك! النظرة الغرائزية الفارغة، التي تبدأ في العين وتنتهي في البطن. السطحية الجائعة، التي تتجدد شراهتها بعد ان تهضم الوجبة على طريق الاتهام السريع.
ولا اعني النظرة المادية الثاقبة الخبيرة التي تزن قيمة الاشياء وتعرف الفرق بين الاصلي والمزيف، ما ان تضعه في بؤرة التقييم. فهذه نظرة مدربة، تمرست في معرفة مجالها حتى صارت اداته وميزاته.
اريد ان اصل معك الى النظرة العقلية والميزان الفكرة، اقصد وجهة النظر الواحدة التي لا تكتمل مطلقا ولا تؤدي بمفردها الى حقيقة. اهاجم تلك الواحدة الاحادة المتيبسة تحت جدار اصم مصبوب لبنة قديمة فوق لبنة اقدم.
جدار لا يمكنه ان يتحرك الا بزلزال، وما ان يتزلزل جموده حتى يتهدم. لا عراقة في بنيانه ولا فن بزخرفه. مطلي بتراكمات من مروا به واسندوا عليه خطاهم معتبرين انه خط النهاية، متناسين ان الحياة برمتها ما هي الا بداية لحياة، وان الافق ذاته ليس سوى خط وهمي يعجز عما بعده النظر.
يغتر الانسان بقلبه ويستفتيه، ويغمض عينا لرؤية الاشياء النائية، ولا يسعى ابعد مما تحتمل قدماه. فلو انه وعى انه اثنان متناظران وليس واحدا، ولو ترك لقلبه حرية السعي وحرر عقله من جريرة الاحكام المقننة، واطلق جناحا قلبه يسرحان به في ملكوت الله سعيا وراء يقين لا يسقطه شك ولا يحط به فوق غصن مهزوز لربما انقذ هذا الانسان نفسه من العزلة الاختيارية وتوقف عن التخبط متنقلا بين الناس بحثا بلا هوادة عن قرين مفقود.
لا ليست الفكرة معقدة الى هذا الحد، ان تتصالح مع نفسك وتتقبل ان في ذاتك وجهي الحقيقية، وانك الشرير والطيب، الظالم والمظلوم، الفاعل والمفعول به، الآخذ والعاطي، الجاهل والعالم، فهذا هو اول الانفتاح على الآخر الذي فيك. وكم سيصبح ميسرا بعد ذلك ان تتفهم دوافع الآخرين وتتقبل تصرفاتهم وتحترم اختياراتهم. فلا تتهكم على ما اقترفوه لأنك تدرك احتمالات تعرضك، في اي لحظة، لاقترافه. ولا تسد في وجوههم مسالك العودة لأنك تذكر اوقاتا مماثلة تمنيت فيها مخرجا.
لذا ادعوك يا اخي الانسان للتعرف عليك، فقرينك الذي سيغفر لي يعيش في قلبك الذي ظلمني، وعينك التي احبتني تجاور عينك التي انكرتني. وعار كبير ان نعتاش على ساعات النهار ثم نلعنه في غسق الليل. وعار ان نغازل لون البحر وننسى فضل السماء عليه.
مواقع النشر (المفضلة)