ينحو الناس في أيامنا هذه إلى الطبيعة، بعد أن وقفوا على مضار المواد الكيميائية، سواء تلك المستخدمة في الأغذية أو الأدوية، ومن أمثلة التجائهم إلى عناصر الطبيعة: توجه الكثيرين إلى ترك استخدام الأسمدة الكيميائية في تسميد بساتينهم وزروعهم وتخصيب أراضيهم بها، والاستغناء عنها ببديل ربما كان أفضل منها وهو استخدام الأسمدة العضوية، ولما كانت المادة التي تتخذ منها هذه الأسمدة هي: ذرق الطيور وأبعار الإبل والأتن وأزبال الغنم والماعز وأرواث البقر والجاموس، وغيرها من فضلات الدواب، وكان الفقه الإسلامي الثري لم يدع شاردة ولا واردة إلا وتضمن حكما شرعيا لها، فقد تناول الفقهاء حكم بيع هذه الفضلات صرفا أو ممزوجة بغيرها من عناصر التربة أو نحوها من الإضافات، وقد اتفق الفقهاء على أن فضلات الحيوانات والطيور إن كانت خالصة (أي غير مخلوطة بغيرها من عناصر البيئة أو الطبيعة)، بأن كانت بعرا أو روثا أو زبلا أو ذرقا صرفا، في داخل أمعاء وكروش الدواب والطيور أو خارجها، فإنه لا يجوز بيعها باتفاق الفقهاء، لأنها ليست - وهي على هذه الصورة - مالا، ولا يجوز بيع شيء إلا إذا كانت له قيمة مالية في نظر الشارع، كما أنه لا يجوز الانتفاع بهذه الفضلات وهي صرفة على هذا النحو، لأن الناس لا ينتفعون بصرفها ولا يحرزونها، وإنما ينتفعون بما كان منها مخلوطا بغيره كالتراب ونحوه، وأما إذا كانت هذه الفضلات مخلوطة بغيرها من الأتربة أو بعض المخلفات العضوية: كأوراق الشجر أو الأغصان الدقيقة أو قشور الحبوب والثمار المجروشة أو الألياف النباتية أو نشارة الخشب أو نحوها، فكانت على هيئة السماد الذي ينتفع به في الزروع والأشجار والتربة، فإن الفقهاء اختلفوا في حكمها، ففريق منهم يرى جواز بيعها إذا كان ينتفع بها، وهو مذهب الحنفية، وهو ما قال به ابن القاسم وابن الماجشون وغيرهما من فقهاء المالكية، وهو رواية عن أحمد، وذلك لأن المسلمين يجعلون للأسمدة المتخذة من هذه الفضلات قيمة مالية، وقد انتفعوا بها في سائر البلاد من غير أن ينكر عليهم أحد، لأنهم يلقونها في الأراضي لاستكثار الريع، وهذا بخلاف الفضلات الخالصة غير المضافة إلى غيرها من عناصر الطبيعة، لأن العادة لم تجر بالانتفاع بها إلا مخلوطة برماد أو تراب غالب عليها، فحينئذ يجوز بيعها، ولأن بيع السماد العضوي المتخذ من فضلات الدواب والطيور فيه منفعة مشروعة، فجاز بيعه قياسا على بيع الثوب النجس الذي أجازه الفقهاء، ولأن ما جاز الانتفاع به شرعا جاز بيعه ومقابلته بالمال، والسماد العضوي المتخذ من هذه الفضلات مما يجوز الانتفاع به شرعا في إصلاح التربة وتسميد الزروع والأشجار به ليكثر النماء والثمر والريع، يجوز بيعه وبذل المال في مقابلته، ويرى فريق آخر حرمة بيع ما اتخذ من هذه الأرواث والأبعار والأزبال والذرق وإن كان فيه منفعة، وهو ما ذهب إليه الجمهور ومنهم: المالكية على المشهور عندهم، وهو مذهب الشافعية والحنابلة والظاهرية، لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: “إن الله عز وجل إذا حرم على قوم شيئا حرم عليهم ثمنه”، حيث أفاد أن السماد المتخذ من فضلات الدواب والطيور لا يحل بيعه، لأن عينه نجسة، ولا يحل لمسلم مخالطة ما كان نجسا، وما كان بهذه المثابة لا يحل بيعه، للنهي عن ثمن ما حرمه الله تعالى، وحرمة بيعه عند هؤلاء مقيسة على حرمة بيع الكلب والخنزير والميتة، المدلول عليه بحديث جابر (رضي الله عنه) أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: “إن الله تعالى حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام”، وحديث أبي مسعود البدري (رضي الله عنه) “أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن”، (مهر البغي: ما تأخذه البغي في مقابل الفحش بها، وحلوان الكاهن: ما يأخذه عوضا عن كهانته) وروي عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: “إن الله حرم الخمر وثمنها، وحرم الميتة وثمنها وحرم الخنزير وثمنه”، فنص على الكلب والخنزير والميتة وتقاس عليها سائر الأعيان النجسة، ومنها السماد المتخذ من فضلات الدواب والطيور، إلا أن الراجح من الرأيين هو رأي من يرى جواز بيع السماد المتخذ من هذه الفضلات إذا خلطت بغيرها، وذلك لأن الفضلات الخالصة التي وصفت بالنجاسة وحرم بيعها قياسا على الكلب والخنزير والخمر والميتة، لا يستفاد منها في تسميد الزروع أو الأشجار أو التربة وهي على هذا النحو، إذ إنها وهي على هذه الهيئة لم تتولد فيها البكتريا المخصبة للزراعات، ولذا كان لابد لاستيفاء فائدتها فيما تتخذ لأجله أن تخلط بغيرها، وأن تترك مدة من الزمن حتى تتولد بها المكونات المخصبة للتربة أو ما غرس أو زرع بها، وخلطها بغيرها من مواد يراعى فيه استهلاكها فيما خلطت به، ولذا فإنه لا يصدق عليها بعد خلطها بالمكونات الأخرى أنها فضلات حيوانات أو طيور فقط، لأن المنتج الجديد بعد هذا الخلط له حقيقة أخرى ومسمى آخر غير حقيقته التي كان عليها ومسماه قبل الخلط، حيث استهلكت هذه الفضلات في المنتج الجديد (السماد العضوي)، ولم تعد عين النجاسة باقية كما كانت قبل الخلط، ولذا فلا يرد في حق هذا المنتج النصوص المانعة لبيع النجاسات، ولا ينبغي قياسه على الكلب والخنزير والخمر ونحوها في حكم البيع، لأن القياس حينئذ مع الفارق، ويضاف إلى هذا اشتمال هذا السماد العضوي على فائدة يحبذها كثير من الناس في زماننا، وحيثما تكون المصلحة المشروعة للناس فثم شرع الله تعالى، فكان هذا السماد مما يشرع بيعه.
مواقع النشر (المفضلة)