خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان متميزاً عن غيره من المخلوقات الأخرى وهذا التميز بلا شك ليس بقوة الجسم؛ فالفيل والبعير أقوى منه أجساماً، ولا بطول العمر في الدنيا؛ فالنسر والفيل أطول منه عمراً، ولا بشدة البطش؛ فالأسد والنمر أشد منه بطشاً، ولا باللباس واللون؛ فالطاووس والدراج أحسن منه لباساً ولوناً، ولا بكثرة الذهب والفضة؛ فالسهول والجبال أكثر منه ذهباً وفضة.
وإنما تميز الإنسان عن بقية المخلوقات أن الله تعالى خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، فوقع الملائكة له ساجدين، أعني آدم عليه السلام، ثم كانت سلالته مفضلة على بقية الخلق بالعقل والروح والتكليف.
قال المتنبي:
لولا العقولُ لكان أدنى ضيغم
أدنى إلى شرف من الإنسانِ
ولما تفاضلت النفوس ودبرت
أيدي الكماة عوالي المرانِ
فالتميز إذن صاحب الإنسان منذ نشأته الأولى، ثم جاءت الأديان لتجعل التميز منهجا من مناهج دعوتها وقررت بأن من سبق في الدنيا إلى الخيرات، سبق في الآخرة لدخول الجنات، وبهذا اعتاد الإنسان على حب التميز في كل شيء. وفي هذا العصر المتسم بالتميز أصبح هذا المصطلح دارجاً وبخاصة في محيط المال والأعمال، فالبنوك وشركات أخرى تعطي متميزيها ولو كانوا بسن أبنائهم ما لا تعطيه لغيرهم ولو كانوا بسن آبائهم.
وبلا شك حينما يطمح أحدنا أن يكون في صفوف المتميزين إما بصفة حميدة كالكرم أو الصدق أو الإيثار أو بعمل جليل كاختراع أو إبداع عندها ترتفع قبعات الجميع له احتراما وتقديرا كيف لا ونحن من قال شاعرها:
مناي من الدنيا علوم أبثها
وأنشرها في كل باد وحاضر
وقال حكيمها: إن هممت فبادر، وإن عزمت فثابر، وأعلم أنه لا يدرك المفاخر من رضي بالصف الآخر.
وهذا النوع من التميز هو ما يشغل أصحاب الهمم العالية وأصحاب الفكر السديد الذين يتطلعون دوما إلى معالي الأمور ويتمثلون قول الشاعر:
إذا غامرت في شرف مروم
فلا تقنع بما دون النجوم
فالبحث عن التميز بهذا الوصف يكمن في النفوس الكبيرة والفطر السليمة، ولكن لكل قاعدة شواذ وشواذ هذه القاعدة من ظن بأن التميز بأشياء شكلية لا تقدم بل تؤخر كمن يتزيّا بغير زيه أو يتمنطق بغير منطقه أو يبالغ في السير في ركاب الموضة ومطاردة ألوان المكياج ورصد الجديد في تسريحة الشعر. أو من يجعل التميز في رقم جوال أو رقم لوحة سيارة. فمن هذه حاله يصاب باختلال في الموازين وانتكاسة في المفاهيم وهنا يكمن الخطر فإذا ما اتسعت دائرة هؤلاء - وهي للأسف آخذة بالاتساع - فسينقلب الخير شراً والشر خيراً، لاعتمادهم في أحكامهم على الآخرين على أسس مغلوطة مرتبطة بتلك المظاهر، فإذا أرادوا أن يزنوا شخصا نظروا إلى ملبسه ومسكنه ومركبه وهيئته ولم ينظروا إلى ما وراء ذلك، مما هو الأصل فيما ينبغي أن ينظر إليه في موازين الأشخاص والأحوال.
وكل هذا خروج عن الطريق السوي، فالشخص ينبغي أن يحكم عليه بمخبره لا بمظهره، والأمر بحقيقته لا بلفظه والأشياء بمسمياتها لا بأسمائها.
مواقع النشر (المفضلة)