من الزورق إلى اليابسة
من الزورق إلى اليابسة
يختزن الناس كنوزهم، يعيشون على ملكهم ذلك، تثير كنوزهم مخيلة الآخرين، يأتي بعدهم من يبعثرها، تذهب الكنوز ولا يتذكر اللاحقون سوى ميراثهم الذي لم يروه لكنهم حفظوا قصصه وغرائبه فتحول إلى ميراث ما، ثم إلى تراث حضاري وثقافي لهم·
هذا هو واقعنا اليوم أفراداً وشعوباً وأمة، أو أُمماً لها كنوز لم تحفظها وتراث لم تحسن قراءته فاختلط عليها أصلها وفصلها، واقعها وماضيها ومستقبلها·
نحن أجيال ولدت في القارب، ظانة أنها على اليابسة، نحن أبناء الموج الذي يتلاحق واليَّمْ الذي لا نعرف قراره·
ولدنا في دول الاستقلال العربية، وبعضنا شهد طرفاً من استعمار غربي ما، ولدنا ضمن واقع تطبيقي من ميراث العصور الحديثة، الدولة التي أنتجت مفهومها الثورات الأوروبية المتلاحقة، رُسمت لنا الحدود، وبذلك أيضاً رسم لنا الانتماء الذي صار يتقلص· لم نعد أبناء الامبراطورية، ولا الأمة، ولا حتى القبيلة، صرنا أبناء الدولة، الدولة نفسها التي تحاول أن تفك شيفرة وجودها في العصر الحديث مستضيئة من جديد بالمنجز الغربي السياسي والثقافي والاقتصادي الحديث: الدستور، هيئات التمثيل الشعبي، وربما الديمقراطية، الانتخابات، حقوق الإنسان، وحرية الرأي·
وفي نصف قرن أو أقل غمرتنا أمواج التغيير والتحولات· لم تبتعد أيادي الاستعمار عنا كثيراً غير أنها غيرت قفازاتها كما غيرت حراسها وأعوانها، رأينا الحروب تتلاحق على أراضينا ومن خلفها الهزائم التي صارت تأكلنا حقبة تلو الأخرى· وصارت الأشياء تتداعى: صورة الذات، العلاقة بالآخر، العلاقة بالماضي، الحاضر، والمستقبل، ضربتنا رياح الشتات، والفساد، التبست علينا الذاكرة وأكثر منها التبست علينا الأحلام التي تحققت ككوابيس معاشة· لم يرحمنا العالم، وبالتالي قرر نفرٌ منا أن لا يرحمه أيضاً·
شعوب وحضارات قديمة، مثلنا، قررت دخول التاريخ، قررت الذهاب نحو المستقبل، واستطاعت·· عانوا مما عانيناه وربما أكثر، سحقهم الاستعمار والاستغلال وبطشت بهم الحروب غير أنهم قرروا أن ينهضوا ويذهبوا إلى الغد، واليوم تقف هذه الأمم داخل بوابة المستقبل، لا خارجه مثلنا·· الصين، والهند، واليابان ومعها التكتلات والمحاور في العالم مثل دول شرق آسيا، أو أمريكا اللاتينية أو أفريقيا· بل إن دولاً بمفردها تحمل ملامح ميراثنا تقف على درجات أعلى منا في السلم على مستوى القوة، والتحقق، والتماسك، مثل إيران وماليزيا، وغيرهما·
فما الذي حدث لأمة الوسط، الأمة التي أضاعت حروفها، ومعانيها، وبالتالي أضاعت جزءاً عزيزاً من عقلها وروحها، لأمتنا التي تخاذلت كثيراً في أن يسند بعضها بعضاً رغم كل الدماء المراقة فيها، ورغم تلك الاستباحة التي صارت كاملة لوعيها ولواقعها؟
الشعارات وحدها لا تكفي، ولا تلك الابتسامات والمصافحات الزائفة بين أولي الأمر فينا·· إننا بحاجة إلى أن ننهض، ننهض حقاً، وأن ندرك حقيقة الزمان والمكان اللذين نعيشهما والأهم من ذلك أن ندرك حقيقتنا، علينا أن نخلع جلود الكذب على الذات، وأن نواجه حقيقة المسخ الذي أصبحناه، علينا أن نطهر الذاكرة من أساليب قمعها، أن نحرر المكبوت فينا، أن نجدد الرؤية، أن نصافح الآخر الذي سبقنا بقرون، أن نسمح لشمس الحقيقة بأن تبزغ، وأولها حقيقة ما أصبحنا فيه·
إن عقلية الجلادين، وعبادة السلطة، وإغلاق أبواب المعرفة، ومصادرة حقوق الآخرين في حرية الفكر، والعقيدة، والمعتقد، حرية التعددية في المكان والزمان، كل ذلك قد جعلنا أعداء للآخرين، والأهم من ذلك أعداء لأنفسنا· وإذا كان مشعل الحضارة الأول قد أنير في صحارينا، وعلى ضفاف أنهارنا وسواحلنا، أليس بالإمكان إعادة ابتكار ولو قبس منه·· لا يمكن أن تُختصر صورة هذه الأمة إلى رجال عسكر بهراوات على رؤوس شعوبهم، أو ملتحين بثياب قصيرة، وعقول متحجرة يضربون رؤوسنا ورؤوس بقية الشعوب التي لا تود أن تشبههم أو تخضع لهم· إن بقاءنا على هذا الحال سوف يحولنا إلى أثر من آثار الأمم البائدة، وما أكثرها في صحارينا العربية·
أولى علامات الشفاء هي أن نعترف بهزائمنا، ومن ثم أن نطلق سراح عقولنا المختطفة نحو حرية التفكير، والابتكار، والإبداع الذي يتوافق مع شروط الزمان والمكان·· يتوجب علينا أن نخرج من قمقم الخوف الذي سكناه، وأن نعيد تفكيك جلاميد الصخر التي ارتضينا أن تكون صنماً لميراثنا الروحي والديني ، والفكري والمعرفي، يتوجب أن لا نلد أطفالاً يحملون خناجر ضد العقل، كي لا يتكرر ذلك الذي حدث لفرج فودة، وكريم مروة، وكي لا يتجه ذلك الخنجر إلى عنق حكيم وروائي عظيم مثل نجيب محفوظ أو يخرس عقل وقلم وحنجرة مفكر مجتهد مثل سيد القمني أو تصادر قصائد وأشعار وكتب سواء كانت لنزار قباني أو من التراث مثل ألف ليلة وليلة·· إن زمن خوفنا والمسوخ التي تولد معه صارت بدورها تخيف العالم وتهدد بإبادتنا على أكثر من مستوى·
--------------------
فهد الفهد
مواقع النشر (المفضلة)