بين الايثار والأنانية بون شاسع، فالأول هو تفضيل الآخر على الذات، أما الثاني فهو على النقيض تماما وتصل فيه درجة حب الشخص لذاته الى حدود المرض، فهو يتجاوز كل الحدود والخطوط المتعارف عليها بين الناس وصولا الى مصلحته فقط.
الايثار اذن يقف على الطرف الآخر من هذه المعادلة، فمن يتمتع بهذه الصفة النبيلة تجده دوما على استعداد للبذل والعطاء بلا توقف عند حدود معينة، بل ان الشخص المؤثر يمكن أن يصل به الأمر الى اعطاء الأولوية لمصالح الآخرين حتى لو كان ذلك على حساب مصلحته الشخصية.
واذا ما قارنا الايثار بباقي الصفات الحسنة الأخرى المتعلقة بالعطاء مثل الاحسان والجود والانفاق، لوجدنا انه يشمل هذه المفاهيم الأخلاقية جميعا، بل انه يتفوق عليها اذا ما قورن بكل صفة على حدة.
الايثار مثلا يأتي في مرتبة اعلى من الانفاق، لأن المؤثر هنا لا يكتفي فقط بالانفاق ولكنه يعطي ما يحتاجه هو نفسه من دون أن يتسرب اليه شعور داخلي برغبته في الشيء الذي أعطاه،وهو يفعل ذلك بنفس راضية تماما بل انه لا يشعر بالرضا الا اذا آثر غيره على نفسه..يقول تعالى “ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة” (الحشر: 9)
الايثار يكون بالنفس وهو ما فعله علي بن أبي طالب رضي الله عنه عندما نام على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة خروجه الى الغار وفداه بنفسه وهي تضحية لا يقدم عليها الا من ملأ الايمان قلبه ورضي عنه ربه.
ويكون أيضا بالمال والطعام، والسيرة النبوية تزخر بالمواقف التي تضرب لنا المثل والقدوة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال :”جاء رجل الى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني مجهود، فأرسل الى بعض نسائه، فقالت: والذي بعثك بالحق ما عندي الا ماء، ثم أرسل الى أخرى فقالت مثل ذلك، حتى قلن كلهن مثل ذلك: لا والذي بعثك بالحق ما عندي الا ماء .فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من يضيف هذا الليلة؟ فقال رجل من الأنصار: أنا يا رسول الله، فانطلق به الى رحله فقال لامرأته: هل عندك من شيء؟ فقالت: لا، إلا قوت صبياني قال: فعلليهم بشيء واذا أرادوا العشاء، فنوميهم، واذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج، وأريه أنا نأكل، فقعدوا وأكل الضيف، فلما أصبح الأنصاري غدا على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لقد عجب الله من صنيعكما بضيفكما الليلة”.
كانت بصمات رسول الله صلى الله عليه وسلم واضحة أيضا على سلوك أهل بيته الذين لم يعرفوا ترف العيش أبدا، بل انهم كانوا لا يأكلون الا القليل،فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض).
ان السيرة العطرة تذكرنا بالكثير من المواقف الجليلة لأناس وهبوا أنفسهم لحب الخير وللعطاء والبذل دون انتظار لمقابل الا مرضاة الله سبحانه وتعالى وفيهم يقول تعالى: “ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا” (الإنسان: 8) فأين نحن الآن مما كان يحدث في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
لقد انتشرت الأنانية والانتهازية بشكل كبير، بل ان المجتمع نفسه أصبح لا يستنكر مثل هذه القيم السلبية،والمصيبة أن البعض يعتبر أن هذه الأفعال شطارة ومهارة في اقتناص فرص الحياة، وفي سبيل الوصول الى مصلحته الشخصية يمكن أن يدوس بأقدامه مصالح الآخرين دون رادع ديني أو مجتمعي.
بالطبع لا يجب النظر الى نصف الكوب الفارغ فقط كما تقول الحكمة الشائعة، فهناك أشخاص جعل الله عز وجل في قلوبهم الرحمة، واختصهم بقضاء حوائج الناس وهم يفعلون ذلك بإيمان كامل وبحب خالص دون كلل أو تذمر،ولكننا نقول ان مثل هؤلاء أصبحوا مثل العملة النادرة..علينا اذن تذكر أن العطاء هو عطاء لله يرده لصاحبه أضعافا مضاعفة في الدنيا والآخرة.
مواقع النشر (المفضلة)