المنبر.. إبداع مدهش ينفرد به المسلمون
تجلت في المنبر فنون الخرط الخشبية، وأشرقت عليه ألوان الزخرفة الإسلامية، بلوحاتها الخطية وأشكالها النباتية والهندسية.
ارتقاه خاتم الأنبياء، ومن بعده الخلفاء ومن بعدهم الفقهاء والعلماء والخطباء. شأنه عظيم، ومقامه كريم وحديثه صدق ودعوته حق ولسان حاله يقول: وفوق كل ذي علم عليم.
والمنبر وحدة معمارية مستقلة تتكامل مع عناصر المسجد الأخرى، تجتمع فيه سائر فنون العمارة الإسلامية التي تبدأ من الباب والتاج والقاعدة، وتصعد مع درجات السلم إلى المقعد الذي تحيط به الأعمدة، تعلوها قبة، فوقها الجزء الكامل للهلال، وهو دائري وبيضاوي.
وتصنع القمة والقاعدة من أجود أنواع الخشب التي تتميز بالمتانة والقوة، وتصلح للحفر والخرط والزخرفة، منها الجوز والزان والساج، وفي بعض المساجد الصغيرة يظهر المنبر في صورة نصف دائرة بارزة، عليها سور تتخلله الأشكال الجصية والزخارف الهندسية والنباتية والخطية.
ويشكل المنبر مع المحراب تكوينا معماريا وزخرفيا قويا، وتنطلق منهما الفنون الإسلامية إلى باقي أجزاء المسجد الأخرى.
وما أشبه المنبر بنهر يجري إلى الأجزاء الخشبية الأخرى مثل النوافذ والأبواب، ودكة المبلغ ودكة الدرس وحامل المصحف الشريف. وباختصار يمكن القول إن المنبر ابداع مدهش ينفرد به المسلمون.
منبر الأقصى
ومن أشهر المنابر في تاريخ العالم الإسلامي منبر المسجد الأقصى في فلسطين، الذي أحرقه “الاسرائيليون” سنة ،1969 حيث ادعوا أن سائحا استراليا من أصل يهودي هو الذي أشعل النار فيه واتهموه بالجنون. وهذا المنبر بناه نور الدين زنكي، وأقامه صلاح الدين الأيوبي بعد انتصاره على الصليبيين في معركة حطين.
وهو شاهد على روعة الفنون الإسلامية، ويمثل تحفة في فنون الخرط الخشبية والزخارف الإسلامية ومطعم بالصدف والعاج.
يتكون من 16500 قطعة، يتم تركيبها بطريقة التعشيق ولم يستخدم فيه غراء أو مسامير أو أي نوع من مواد التثبيت. ولم تتبق منه سوى قطعة صغيرة محفوظة في المتحف الإسلامي بالحرم القدسي أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين.
استمر المنبر بالمسجد الأقصى 782 سنة، وقد أمر السلطان نور الدين محمود زنكي بانشائه سنة 564ه 1168م، وأمر صلاح الدين الأيوبي بنقله من مسجد حماه إلى المسجد الأقصى بعد انتصاره على الصليبيين وذلك سنة 583ه 1187م، بعد أن أجرى عمارة للمسجد وزخرف محرابه وكساه بالفسيفساء.
ونور الدين زنكي هو الملك العادل (1118 1174م) سلطان حلب ودمشق، جاهد طوال حياته ضد الصليبيين وأجلاهم عن سوريا وفلسطين وفتح الطريق لانتصارات صلاح الدين.
وفي 23 يناير/ كانون الثاني 2007 عاد منبر المسجد الأقصى إلى مكانه، بعد أن أعادت المملكة الأردنية الهامشية بناءه من جديد على الطراز نفسه واستغرقت صناعته 4 سنوات، وبلغت تكاليفه مليونا و200 ألف دينار أردني، وهو من خشب الجوز، شارك في تنفيذه مهندسون ومتخصصون من الأردن وسوريا وتركيا ومصر وماليزيا والمغرب واندونيسيا.
يبلغ ارتفاعه 6 أمتار، وطوله عند القاعدة 4 أمتار، وقد حملته 6 شاحنات إلى مكانه في المسجد الأقصى الشريف.
جامع عمرو بن العاص
بعد فتح مصر أراد عمرو بن العاص أن يتخذ منبرا في جامع الفسطاط، فكتب إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستأذنه في ذلك، فقال له: ألا يكفيك أن تقوم قائما والمسلمون جلوس تحت عقبيك؟
وفي العمارة التي أجراها الوالي قرة بن شريك في جامع الفسطاط في عصر الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك، أمر الخليفة بأن يصنع منبر للمسجد سنة 92ه، انتهى العمل به 93ه، ووضع في مكانه 94ه، بدلا من المنبر القديم.
وكان منبر جامع عمرو بن العاص هو الوحيد في مساجد مصر، وكان الخطباء في جميع أرجاء البلاد يخطبون على العصا في أيديهم، وفي الجامع حاليا ثلاثة منابر أكبرها الأوسط ويبلغ ارتفاعه حوالي 6 أمتار وهو غني بفنون المشربية وعناصر الزخرفة الإسلامية.
تقع دكة المبلغ في المساجد الكبرى خلف ايوان القبلة. وفي جامع عمرو بن العاص في القاهرة تقوم على 4 أعمدة من الرخام بارتفاع مترين تقريبا ويصعد اليها بسلم خشبي وهى محاطة بسور عبارة عن أشكال زخرفية خشبية.
ومن أروع المنابر في مساجد مصر منبر مسجد الصالح طلائع أحد مساجد العصر الفاطمي (550ه)، وهو منبر خشبي نفيس، صنعت ريشتاه وجانباه من حشوات مجمعة، على شكل أطباق نجمية بها زخارف نباتية، محفورة بدقة واتقان مطعمة بالصدف والعاج والأبنوس. وعلى جانبي منبر الجامع الأزهر الشريف تظهر فنون المشربية في صورة تنطق بالدقة والروعة.
منبر الظاهر بيبرس
ومن أشهر منابر الأزهر منبر الظاهر بيبرس (خلال العصر المملوكي) ولم يتبق منه سوى لوحته التذكارية المحفوظة في متحف الجزائر مكتوب عليها “بسم الله الرحمن الرحيم: أمر بعمل هذا المنبر المبارك للجامع الأزهر مولانا السلطان الملك الظاهر المجاهد المرابط المؤيد المنصور وركن الدنيا والدين أبو الفتح بيبرس الصالح أمير المؤمنين بالديار المصرية أعز الله به أنصاره بتاريخ الثالث عشر من ربيع الأول سنة خمس وستين وستمائة من الهجرة”.
ومن أقدم المنابر منبر الجامع العمري في قوص بصعيد مصر، ويرجع إلى العصر الفاطمي (550ه)، وهو من خشب الساج الهندي المحفور حفرا بارزا، ومزخرف بالحشوات المجمعة، التي ظهرت أواخر العصر الفاطمي خلال القرن السادس الهجري، ومسجل على لوحته التذكارية على باب المنبر بالخط الكوفي المزهر اسم من أمر بانشائه والآية الكريمة “ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة”.
وفي المسجد مقصورة من خشب الخرط، وحامل خشبي للمصحف الشريف صنع بطريقة الحشو المجمعة، مطعم بالعاج والصدف، يحيط به شريط من الكتابة بالخط النسخي، عليه آية الكرسي، ويرجع إلى العصر المملوكي.
وفي مسجد محمد بك أبو الذهب في ميدان الأزهر (1118ه)، منبر خشبي صنعت ريشتاه بطريقة الحشوات المجمعة على شكل أطباق نجمية، وتمت زخرفة هذه الأطباق بالصدف والعاج، وينطق المنبر بالدقة والجمال والاتقان.
ومنبر جامع الامام الحسين بالقاهرة من الخشب العزيزي والجوز التركي والزان، يحمل على أجزائه ثروة من الزخارف الاسلامية.
والمنبر مكان مرتفع يرتقيه الخطيب، ليلقي الخطب الدينية في صلاة الجمعة وعيدي الفطر والأضحى، وسمي كذلك لارتفاعه، وكسرت الميم تشبها بأسماء الآلة ويجمع على منابر.
والمنبر اسم جميل جليل، له هيبة ورهبة، وقد صدرت في مصر 9 صحف تحمل اسم المنبر، أشهرها “منبر الإسلام” التي تصدرها وزارة الأوقاف باللغتين العربية والانجليزية منذ عام 1948.
وفي مسند الامام أحمد بن حنبل أن أول منبر في الإسلام كان يتكون من درجتين، كان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس عليه، ويضع قدميه على الدرجة الثانية. ولما خلفه أبو بكر الصديق رضي الله عنه جلس على الدرجة الثانية ووضع قدميه على الدرجة الأولى.
وعندما خلفه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه جلس على الدرجة الأولى ووضع قدميه على الأرض.
وفي الحديث النبوي الشريف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة”.
مواقع النشر (المفضلة)