الغربة.. هذه الكلمة الصغيرة بحروفها، الكبيرة بمعناها الكبيرة، بكل ما فيها من معنى للمرارة والحرمان ممن يحبهم الإنسان وخروج النفس الإنسانية عن طبيعتها، ولو لفترة من الزمان لحين استقرارها أو بالأحرى تعودها على الأمور الحياتية الجديدة مع بقاء ما لهذه الكلمة من معانٍ، والأقسى من ذلك أن تكون غربة كاملة أي أن تكون غربة المكان وغربة الزمان فالمعروف أو المألوف لدى النفس الإنسانية هذا النوع من الغربة، ولكن الأقسى هي أن تكون فوق ذلك غربة الأشخاص حين ينظر الانسان إلى الأشخاص الآخرين من حوله ويشعر بأنه يراهم لأول مرة أناسا لم يرهم من قبل، فالغربة كما قيل إنها خير معلم للنفس الإنسانية فقد علمتني أشياء كثيرة، ومما علمتني إياه ان انظر إلى الورد ولجماله ولكنها أيضا علمتني أن ابتعد عنه وعلمتني تلك القصة التي كانت ترويها لي أمي وأنا طفل صغير عن الصداقة، فأدركت أن للصداقة حدوداً أكبر من مجرد كلمات جميلة تقال. وعلمتني أننا نملك أشياء لا ندرك قيمتها والأهم من ذلك أنها علمتني أن الموت فوق ترابك يا بلدي ألف الف مرة وبين احبائي اهون من الخروج منك وعلمتني ما أقساه من تعليم علمتني كيف تحس بالوحدة في وسط الكل فيه يرغبك ويريدك، ولكن كل لمصلحته وأهم ما علمتني ان كل هذا لا يساوي دمعة عين من أبي لفراقي كنت أود أن أقول أمي ولكن ليرحمها الله ويتغمدها في جنان خلده عز وجل، (أمي) (أمي) يا لها من كلمة تحتاج إلى مقالات لا بل إلى مجلدات لشرح ما فيها من معاني الرحمة والحب والحنان وكل ما هو جميل أن تراه في النفس الانسانية.
أحيانا ينظر الشخص في المرآة فيحس انه يرى نفسه لأول مرة في حياته ويرى ملامح غريبة عليه قد ترك الزمان عليه علاماته المتميزة، ويقول في نفسه كم تغير شكلي، كأنني شخص آخر، آه آه من غربة الروح فما أشد على الشخص من أن روحه تائهة غريبة لا تجد لها مكان لتستقر فيه اتعبتها الأيام وانهكتها السنون فليس لها عنوان معروف وليس لها منزل تستقر فيه وتطمئن إليه. عائمة على السطح أضعف موجه كفيلة بتدميرها وقتل إحساس الحياة فيها.
هنا حيث يقفون جميعا بين الدمع والعين، بين اللحظة والأخرى، بين جفني عينٍ. الحب هو خلاص غربتنا، حب الله وفي الله، وليس لمصالح شخصية أو منافع فعندما يتوشح الحب قلوبنا نسمو بطموحنا ونرتقي بإحساسنا وتطلعاتنا ونعلو بكل مفاهيمنا فتصبح الروح هي لغة التخاطب الوحيدة وعندها.. وعندها فقط يشرق الفرح فقد خلدوا لنا بصمات جليلة في أعماق أعماقنا، هذا الحب هو الذي تذوب فيه الغربة ولا تقف فيه الحياة عند حد. حب لله وفي الله حب يسمو بالنفس الانسانية ويكسر كل ما فيها من قيود الخوف والغربة والهروب من واقعها ويجعلها تجابه حياتها بلا خوف إلا من الله تعالى خالقها ومدبر أمرها..
مواقع النشر (المفضلة)