قسوه القلب داء دوائه التجديد
[align=justify]
إن ضرب الآماد سنة جارية في الأديان السماوية، وإنّ من سنن الله فيها طول سنيّها، تعريضاً للقلوب لطول الأمد؛ مفتاح قسوة القلب: "فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم".
ولقسوة القلب ثمرتان: التعصب والتخلف، فإن طول الأمد يأذن بقيام بنية متشابكة من المصالح والوجاهات، على قاعدة المقدسات، يكبر على النفوس التزحزح عنها، فتثمر التعصب، والتعصب يورث الجمود، وفي دنياً ربها كل يوم هو في شأن؛ فهي في شأن، يكون التخلف هو المآل حتما.
القلوب القاسية كالحجارة أو أشد قسوة: لا تتفجر عما يحيي، ولا تقبل ما يحيي، "فقست قلوبهم فهي كالحجارة أو أشد قسوة، وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار، وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء، وإن منها لما يهبط من خشية الله" لما تقبلت ما تجلّى لها من الحق.
إنّ تعصب القلوب القاسية وتخلفها، يجعلانها في مواجهة مع التقدم، حيث دولابه لا ينفك يأتي بالجديد، وربما الصادم والمناقض لما أرسته قواعد التعصب والتخلف، وعندها فالتحريف هو أحد حيلها في المواجهة، مرة بتحريف الكلم من بعد مواضعه، وأخرى بتحريفه عن مواضعه.
واليوم ودائما؛ يتنكر التعصب والتخلف لقسوة القلب؛ أبيهما الشرعي، ويدعيان زوراً أنهما ابنان للدين، فالمتعصبون قد نصبوا أنفسهم حماة للدين، وورثة له، وأمناء عليه، وادّعى التخلف أنه الدين كله، ومن عجب أنهم يفخرون بذلك، فمثلهم في هذا كمثل الراعي يفتخر بالذئب أميناً على قطعانه، وهو يأتي عليها بالهلاك.
إن التعصب والتخلف ثمرتان لداء قسوة القلب، ودواؤه التجديد، فالتجديد دعوة شرحت نفسها عبر الأديان السابقة، إذ السماء ذاتها لا تكف عن التجديد، كيف لا ولو كان ما في الأرض من شجرة أقلام، والبحر يمده من بعده سبعة أبحر (مداد)، ما نفدت كلمات الله، وإنما كل شيء ينزل بقدر، فدليل التجديد تتابع مراحل التقدير، والتعصب عن قبوله كان دائماً يمثل كفراً، فلا مبيد للتعصب والتخلف إلاّ التجديد.
التعصب والتخلف بقايا دين قد انحرف عن الطريق، فأنتج مفاهيم الشك، وثقافة الخوف، فحينما لا يتمكن الدين من إعطاء الحقيقة ولا قبولها، فإنّ الحقيقة لا تتحوّل إلى وهم، بل تظل تصرخ بالعقول والقلوب أني حقيقة، ولأن العقول مفطورة على قبول البرهان، والدين يشككها فيه، فلا بد أن تغزوها مفاهيم الشك.
وحينما لا نتمكن من الملائمة مع الإبداع والاكتشاف وقبول الحقائق المستجدة، فإنه لا مناص من أن تسيطر علينا ثقافة الخوف، فنخاف من الفلسفة والعلوم، نخاف على الله أن يثبت العلم عدم وجوده، أو يثبت ما يناقض سننه، أو أن يخرج أمرا من تحت سلطانه، فنتوجس لكل خبر علمي، أو اكتشاف بشري، بدلاً من واجب أنْ نقوم به نحن! نخاف ظناً منا أنّه لربما يهدم حقائقنا ومسلماتنا، عجباً لنا! وهل الحقّ إلاً الله؟ وهل الحق إلاّ الدين؟ وهل يدعو إلى الحق إلاّ الله؟ ولكننا في الحقيقة نخاف على أوهامنا وجمودنا وجهلنا، أن تتكشف الحقائق عن حقيقتها، نخاف على ما بناه تعصبنا وجهلنا أن تهدّه العلوم والاكتشافات، فأما الله والدين فقد أعلناها منذ البداية أنهما الحق، ويستحيل أن يتناقض الحق مع الحق، فهل من خالق إلا الله، حتى يتشابه الخلق علينا في نواميسه وسننه؟ فإنما هو خالق واحد، وخلق واحد، وسنن جارية، تتكشف لكل راصد،"قل سيروا في الأرض فانظروا".
إن التجديد هو دليل الهدى، لأنه جسر العبور بين أوهام الماضي، ومبهمات الحاضر، وغيب المستقبل، فبه يتمحص ما توهمناه من قبل أحقيقة هو أم وهم؟ وبه تنجلي مبهمات الحاضر جلاء يخرجها من تحت عباءة مبهمات الألفاظ، وبالتجديد يمكن أن نتلمس ما يعد به المستقبل من مغيبات، بل يمكن أن يقترب عالم غيب المستقبل، إلى ما يكاد أن يصبح عالم شهادة.
التجديد هو جدّ في تفسير الوجود، لا يكاد يقف على موضع منه، إلاّ ليلبي نداء الحقيقة أن تقدم؛ فإن ما تطلبه لأمامك، وأما التخلف فهو شاهد إثبات على الإرادة المتردية، والمواقف السلبيّة، والأشرعة التي ظلت مطوية عن الإبحار، خوفاً أن تمزقها الرياح، فمزقها البلى وطول الانطواء.
التجديد هو جدّ في تفسير حصاد مزارع السنين، أين صدقوا وأصابوا، وأين كذبوا وأخطأوا، وكيف أصابوا وكيف أخطأوا، التجديد غربال التراث، وتمحيص الموروث، التجديد هو شريعة احترام الشرائع، وهو سبيل من لا وقوف له على شريعة، إذ ليس احترام الشرائع في التمسك بها بعد فوات زمانها، بل في العمل بها ما دامت تجليا لفضائل الأخلاق، والتحول لناسخاتها حينما يغادرها التطور، فلكل جعلنا شرعة ومنهاجا، فالتقاعد بعد فقدان القدرة كرامة، والمتابعة مع العجز مهانة.
التجديد هو بداية نهاية النفق المظلم، بالخروج من ضيق قساوة القلب، المثقل بالتعصب والتخلف، اللذيْن صحّرا دعوة الإسلام، إلى سعة انشراح الصدر؛ المنفتح على الحق والبرهان من أين بزغ فجره.
التجديد هو الفرج لما في الصدور، عبر التحول من مفاهيم الشك، وثقافة الخوف، والعلوق وسط المبهمات، والتطلع حيرة في كال الاتجاهات، إلى الانشراح والثقة والتواصل، القائم على أن كل حقيقة هي من الدين، وأنها لبنة في الإيمان، وسبيلا للتقدم، وأن لا تعارض بين البينة والدين، فليرتحل قارب التفكير في كل البحور، وليقتنص بالبينات كل المعارف، فأينما تولوا فثم وجه الله، وعلينا فقط أن نبحث عن موضعها الصحيح في بناء المعرفة.
مع تحياتي القلبيه
راعـــ النيسان ــــي[/align]
مواقع النشر (المفضلة)