[align=center]كان – يا ما كان – في ماضي الزمان ، أو في زمان لا تعيه الذاكرة ، عجوزان يعيشان في هذه القرية . الأول يدعى صفر باسم الشهر الذي يلي محرم ويسبق الربيع ، والثاني يدعى مدحت . الأول يعرف باسمه ولقبه : صفر السفرجلي ، والثاني باسمه
وكنيته مدحت أبو مديح . وكان الأول هو الذي يقوم بالعمل كله ، فيزرع الفول والقرع والباذنجان والبصل والطماطم في القيراط الذي يملكانه ، ثم النعناع والفجل والجرجير ، كل النبات ريان وكل الزرع يضير .
وصفر هو الذي يجمع الحطب ليشع الدفء في أرجاء المنزل ، عندما تقسو على المسنين ليالي الشتاء . وهو الذي يذهب إلى السوق ليبيع هذا الحطب أو يبيع أحسنه ، ويحمله – عندئذ – على ظهر حماريهما العجوز نعل الريش ، ويصطحب كلباهما الوفي المدعوّ خمس خمسات ، لأنه يلبس في عنقه عقدا يضم خمس خرزات زرق .

أما العجوز الآخر مدحت مديح فكانت طباعه وأخلاقه عجبا من العجب . كثير الغمغمة والتأوه والشكوى من الزمن ، يستلقي على الفراش تارة وعلى الحصير تارات أخرى . ويجلس على المصطبة ، ويتركها إلى الأريكة ، يتربع فوق هذه وتلك . لا يبرح البيت طوال النهار ، وكأنه هو الفصيح الذي صاغ للناس في قديم الزمان مثلهم العجيب القائل بهزأ وبتبجح وسخرية: ( الكسل عسل ).

وكان يحلو للناس أن يتهكموا على العجوز مدحت من وراء ظهره ، لا يواجهونه بشيء من تهكمهم ، ليأمنوا شر غضبه وتهوره ، فقد كان لا يطيق سماع كلمة لا توافق هواه . وعلى العكس تماما ، كان الناس يثنون على صفر وعلى خصاله الكريمة وشمائله الحلوة ، ويشيدون بطيبة قلبه ومثابرته على العمل .
وكان السفرجلي يحب مدحت ويوليه الرعاية ، ويهتم بشؤونه ، فيطبخ له الطعام ، ويوقد له الفرن لينعم بالدفء ويأتيه بأحسن الفاكهة وبواكير المواسم من القثاء مثلا أو البلح أو قطوف العنب والتين ، كلما أمكن .
وكبر الكل : صفر ومدحت، ونعل الريش وخمس خمسات . وأعوزهم الكفاف من الطعام والدفء في بعض الأيام . ونظر صفر إلى أخيه مدحت فوجده يرتعش من البرد وتصطك أسنانه . قال : " سأخرج وأجمع له الحطب من الغابة القريبة".
وسار في غبش السحر قبل الفجر ، وقد أخذ معه نعل الريش وخمس خمسات ، وأنهكهم السير جميعا. ودمعت عينا العجوز، وهو يتأمل السماء ذات النجوم ، وكأنها تتساقط أنداء فوق الزرع والشجر. وفجأة، لمح على مسافة منه – لا يدري هل هي قريبة أم بعيدة – صفحة ماء رقراق ، وحملق فيها وهو مشدود إليها . قال : " هذه لا يمكن أن تكون سرابا ،
ولكنها لم تكن بالأمس موجودة ، ولم أرها في حياتي من قبل ، على كثرة ما جئت هذه الغابة ودخلتها وخرجت منها في كل اتجاه ، وذرعتها محتطبا وقناصا ، وقد جمعت بعض فراشاتها وأزهارها " .
شاب الفؤاد ، إلى الأبد !".
وفيما هو يحدث نفسه، كانت أقدامه قد أوصلته إلى الماء يتبعه صديقاه الوفيان. فإذا بالعين – حقيقة – خيط من الماء ، بالقرب من بعض عيدان الزهور المتفتحة الزاهية كالجدول أو الغدير السلسال . ومال الثلاثة يشربون ، والفجر يطلع هادئا ، يشدو بأصوات العصافير .
وركب صفر السفرجلي ظهر نعل الريش ، فهو أسرع منه قطعا ليصل إلى المنزل مبكرا ، ويخبر مدحت بالخبر .
قال مدحت: " لا أريد أن يأتي أحد منكم معي، لشرب نصيبي من العين، فيزداد هو شبابا ، ويحرمني من العودة إلى الشباب، أتركوني أذهب وحيدا".
وتركوه ...
ورفع صفر السفرجلي قامته ووجهه من صفحة الماء فرأى عجبا ، رأى نعل الريش بضرب الأرض بحافره الناعم فينطلق منها مثل الشرار ، وهو ينهق نهيقا لا نشاز فيه . ثم يدور حول نفسه وكأنه يعلو ويطير ، وحوله – أيضا- يدور عاليا وطائرا ، بخطى أوقع من النغم الشجي ، كلب كأنه في عمر الجراء الصغيرة، كان يعرفه منذ هنيهة باسم خمس خمسات، ولا بد أن يكون بالفعل هو خمس خمسات ولكن شدّ ما تغير نعل الريش كذلك ، هما الآن شابان أو طفلان . بل أنا أيضا صفر السفرجلي العجوز الهرم شاب ، فهذه يدي لم تعد عروقها خضراء بارزة ، وهذا شعري أتحسسه فوق رأسي، فأجده كثيفا غزيرا ملبّدا مثل صوف الغنم ، وهاتان عيناي تريان الأشياء رؤية صحيحة ثابتة، وها هما قدماي تطيران وتعلوان مثل أقدام هذا الحمار الذي أصبح جحشا، وهذا الكلب الذي عاد جروا غريرا .

--------------------------------------------------------------------------------[/align]