ما من إنسان إلا وهو يبحث عن السعادة، انهماكه في عمله دليل على طلبه لها، حرصه على صحته، خروجه للتنزه، استمتاعه بالمنصب والمال والأولاد، كل ذلك وغيره هي أوجه ظاهرة يرى أنها تمشي به خطوات في درب السعادة التي ينشدها.
لكن ثمة أوجه لا يلتفت إليها أحد، ولا يعرف أنها معالم مضيئة في طريق السعادة، ولا يشعر أنها من أوثق الأسباب التي تهدي إليها، وأنها أوجه جميلة لكنها قد خفيت عنه بقناع المشقة التي تغلفها، أو قناع الجهل بحقيقتها، أو قناع الشكل الظاهري الموحي أنه ليس سعادة خاصة لك!
لكن المتأمل يكتشف تلك الأوجه، والأهم أن المجربين وما أكثرهم يجزمون بأنها من أهم أسباب سعادتهم.
سأذكر اثنين من هذه المصابيح التي تضيء طريق السعادة، فأما أولهما فهو مصباح الثقافة، فإن ثقفت نفسك، ونهلت من منابع العلوم، وألممت بأهم القضايا التي يحتاجها المرء في حياته، وزدت عليها بأن تقطف زهرة من كل بستان معرفي، فقد أوقدت بهذا الجهد المبارك مصباحا من مصابيح السعادة.
وغير المثقف له عقل قليل العمل، بسيط الحركة، أما الرجل المثقف فله عقل كثير العمل، مركب الحركة. وكما أن الجسم يلذ له العيش بالحركة لا بالسكون، فكذلك العقل لذته التعقل.
الرجل الجاهل يكفيه من القراءة قراءة الصحف. يقرؤها بسرعة، دون توغل أو تبحر، وهو يتخير منها الخفيف العابر الذي لا يفسد عليه هضمه من بعد طعام. أما الرجل المثقف فهو يقرأ الكتب، يطلب فيها ثمرات العقول، وإرث بني الناس الذي خلفته الأجيال على القرون، وهو يدخر كل هذا في عقله، وهو يطويه في فطنته، فإذا نظر إلى الأشياء أو حكم على الأشياء، نظر وحكم بعين نفسه، وبعيونِ ألْفٍ ممن قرأ لهم في حاضر الزمان وغابره.
إن المثقف التام التثقف الذي تثقف حسه، وتثقف عقله، وتثقف قلبه، وجمع معاني العرفان والحكمة، هو أسعد رجل على هذه الأرض، وهو سعيد في شبعه وجوعه، سعيد في عريه واكتسائه، سعيد ما بقي له شعاع عقله، ودفء قلبه، وتفتح بصيرته.
مصباح ثان من مصابيح السعادة هو مصباح قضاء حوائج الناس، فإن إدخالك السرور على قلب إنسان ما وإن لم تكن تعرفه له لذة عجيبة، تتسرب في خلايا جسمك، وتسري في دماء قلبك، فتنعشك بإشعاعات السعادة التي لم تكن تتصورها.
فالعطاء له حلاوة، والبسمة على وجه الآخر لها شعاع نور يخترق القلب الحي، وإحساسُك بدورك وأثرك في حياة الآخرين سهم ثاقب في الصميم.
بل إن من شعور المرء بفضل الله عليه أن يفرح إذا كانت حاجات الآخرين عنده، أو كان يستطيع مساعدتهم في أدائها، فهذا هو الكرم، والسمو الروحاني، وهو من النعم الواجبة الشكر، واليد العليا خير من اليد السفلى.
وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أي الناس أحب إلى الله؟ فقال: “أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله تعالى سرور تدخله على مسلم، تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دينا، أو تطرد عنه جوعا، ولأن أمشي مع أخٍ أحب إليّ من أن أعتكف في هذا المسجد يعني مسجد المدينة شهرا، ومن كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه يوم القيامة رضا، ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى يقضيها له ثبت الله قدميه يوم تزول الأقدام”.
ومن علائم الأخوة في الله أن تحب النفع لأخيك، وأن تهش لوصوله إليه، كما تبتهج بالنفع يصل إليك أنت، فإذا اجتهدت في تحقيق هذا النفع فقد تقربت إلى الله بأزكى الطاعات وأجزلها مثوبة”.
أضئ مصباح السعادة حولك، تجده مضاء في قلبك على الدوام، منعكسا على حياتك وبيتك ومجتمعك.
مواقع النشر (المفضلة)