مدونة نظام اون لاين

صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 5 من 8

الموضوع: ... دعـْــوَة إلـــى الـــسَّيـْرِ فـِى مَـــدارج الـــكـَمال ...

  1. #1
    ... V I P...


    تاريخ التسجيل
    Aug 2005
    الدولة
    في الرياض
    المشاركات
    7,786
    معدل تقييم المستوى
    8

    افتراضي ... دعـْــوَة إلـــى الـــسَّيـْرِ فـِى مَـــدارج الـــكـَمال ...

    بِسْمِ اللـَّهِ الرَّحـْمـَنِ الرَّحِـيمِ
    السَّـلاَمُ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَةُ اللَّـهِ وَ بَرَكَاتُه



    مقاصد التوبة
    دعوة إلى السير في مدارج الكمال



    قال الله جل جلاله : { وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور :31] ،

    وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لاَ يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8)} [التحريم :8]

    ، وقال عز وجل : { وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات :11] ..

    وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يا أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه فإني أتوب إلى الله في اليوم مئة مرة » ، اللهم تب علينا توبة نصوحا .. اللهم تب علينا توبة ترضيك .. اللهم تب علينا توبة صادقة تقبلها منا ..


    أيها الأحبة في الله ..

    التوبة التي أمر الله بها عباده توبتان: توبة تغير السير، وتوبة تصحح السير، توبة يسلم بها العبد، وتوبة يجدد بها إسلامه، فالأولى توبة إسلام، والثانية توبة إحسان، والثانية منهما تكمل عمل الأولى؛ ذلك أن التحول الذي تحدثه التوبة التي تعقب الغفلة والضلال، وإن كان شيئاً ضخماً في مجال الأفكار والمعتقدات والمشاعر والأحاسيس والأقوال والأعمال، إلا أنها غير كافية لتحقيق كل ما ينـتـظـر الإنسان بعد الهداية، فعندما ينهض بإصلاح ما فسد من أخلاقه وعاداته، وتقويم ما اعوج من أعماله وتصرفاته، ويتتبع بقايا الجاهلية في سلوكه: يكون قد شرع في التوبة الثانية، وإذا كـانـــت الـتـوبــة الأولى تحدث مرة واحدة ويعيشها صاحبها في لحظة أو يوم، فإذا هو قد فصل بين عـهــدين من حياته، فإن التوبة الثانية تجديد مستمر، وعمل متواصل، وسعي دؤوب لتقليص هـامــش الإســاءة بجمـيــع صورها وتوسيع هامش الإحسان بكل أشكاله.

    إن تـوبــــة الهداية والإيمان تشبه الوقود اللازم لتشغيل محرك معطل عن العمل، وتوبة الإحسان هــي الـوقــود الآخر الذي يحتفظ بالمحرك في حالة اشتغال حتى يبلغ صاحب السيارة مأمنه.

    وقد يقول قائل: إن الإسلام إنما تحدث عن توبة واحدة، فلماذا جعلتهما توبتين؟. والحقيقة: أننا لم نفـــرد الـتـوبــة الأولى عن الثانية بخصائص خاصة، فالرجوع إلى الله والإقبال عليه قاسم مشترك فيهما، ولكننا ميّزنا بين مرحلتين في حياة الإنسان، تحتاج كل منهما إلى توبة.

    وإنما دعانا إلى هذا التمييز: ما نراه عـنـد كـثـيــر مــــن المسلمين من التهاون في الارتفاع بإسلامهم وإيمانهم، فتجد الواحد منهم ـ إذا كان قد حقق في أول التزامه بعض التحولات ـ لا يكاد يزيد عليها شيئاً جديداً، مع العلم أن إحلال السنة محل البدعة والطاعة محل المعصية لا يتم بين يوم وليلة.

    لم يكن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هكذا، فقد كان الواحد منهم إذا أسلم يخلع على عتبة الإسلام رداء الجاهلية ويشرع في إقـصــــاء شوائبها من حياته، ويواصل الليل بالنهار والنهار بالليل، ليصل أقصى ما يستطيع الوصول إليه من درجات الإسلام.

    إن الكمالات التي جاء بها الإسلام وأمر بالمنافسة عليها كثيرة جدّاً، كما أن النقائص التي نهى عنها لا تنحصر، وإذا كان الشيطان يضع العوائق فـي وجــه ابن آدم يمنعه بها من التوبة الأولى، فإنه يستأنف محاولته مع من أفلت منه وتاب إلى ربــه ليعوقه عن التوبة الثانية، فيصرفه عن تجديد إسلامه لتستوي أيامه، وتضيع منه الفرص، وتتحول حياته إلى ركود، بل لا يتردد في جر الإنسان إلى الوراء والتقهقر إلى الخلف، فبعد أن كان يتقدم إذا به يتأخر.

    حـوافـز التوبة :

    إن دوافــع الـتـوبــة إذا استقرت في قلب المسلم، وصارت جزءاً من العلم الذي في صدره، دفعته للأخذ بأسباب الهداية التفصيلية، بعد أن أكرمه الله (تعالى) بنعمة الهداية العامة، ويوجد بحمد الله (تعالى) أكثر من حافز لهذا التجديد الذي يرتقي بنا في درجات الكمال الممكنة، ويجعلنا دوماً في زيادة من ديننا، ويجعل من التوبة عمل اليوم والليلة.

    الحافز الأول: عموم الأمر بالتوبة والحث على تعجيلها:

    لقد أمر الله (عز وجل) الناس كـافـة بالتوبة، وأمر بها المؤمنين خاصة، وهذا يعني أن أي إنسان مهما بلغ إيـمـانـــــه، وتدينه واستقامته لا يـسـتغني عن التوبة، فهي بداية السير ونهايته، يصبح فيها العـبــد ويمـسي، ولا يـدعـهـا أبداً، لكن الناس يختلفون في موضوع التوبة: فقد يتوب عبد من الكفر، في الوقت الذي يـتـوب آخر من بدعة، وثالث من ذنب كبير، ورابع من صغيرة، وخـامـــس من شبهة، وســادس من تـقصـير في فريضة أو نافلة، وسابع من ترك نصيحة أو غفلة عن ذكر أو تهاون في دعوة أو جهاد...

    فهناك ـ إذن ـ أمر إلهي عام لعموم الـناس ولعموم المؤمنين بالتوبة إليه، وهذا الأمر يجعل من التوبة ثوباً لا ينزعه العبد ما عـــاش، وإن نزعه لبعض الوقت عاد إليه من قريب.

    فمن الآيات التي خاطب بها (سبحانه) عـبــاده جميعاً : قوله (تعالى): { وَإنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى } [طه: 82].

    وقوله (سبحانه): { إنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَــأُوْلـَئــِكَ يَـتُـــوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إذَا حَـضَــرَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ إنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ } [النساء: 17، 18].

    ومــن الأحــاديــث: قوله ـ فيما رواه الترمذي وحسنه ـ: (تُقبل توبة العبد ما لم يغرغر)، والغرغرة: الاحتضار، وقوله ـ فيما رواه مسلم ـ : (إن الله (تعالى) يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها).

    أما الآيات التي خاطـبـت المؤمنين خاصة، فمنها قول الله (تعالى): { يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً } [التحريم: 8]، وقوله (عز وجل): { وَتُوبُوا إلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [النور: 31].

    ولايخفى أن التوبة التي أمر الله بها المؤمنين ليست توبة الإسلام والإيمان؛ فهم مسلمون مؤمنون، ولكنها توبة الإحسان التي تجدد إسلامهم، وتقوي إيمانهم، وتصلح ما فسد من أعمالهم وتقوِّم ما اعوج من تصرفاتهم.

    وما دامت الأخطاء واردة فـالأمـــر بالـتـوبـــة قائم لا يجاوزه أحد، وهو في كل وقت على التعجيل والفور، لا التأخير والتراخي، وكل توبة قبل الموت فهي توبة من قريب، وكل ذنب فارتكابه جهالة.

    الحافز الثاني : التفكر الدائم في حقيقة الزمن :

    هناك حجاب كثيف من الغفلة يمنع أكثر الناس من إدراك حقيقة الزمن، فهم لا يرون في طلوع الشمس سوى بداية يوم جديد يربطون فـيــــه الاتصال بمجموعة من الهموم الآنية والأغراض العاجلة، كما لا يرون في الليل سوى نهاية ذلك اليوم، ونادراً ما يتجاوزن هذا النظر القريب إلى نظر آخر بعيد، يبدو فيه تعاقب الـلـيــل والنهار درساً بليغاً، وموعظة، وذكرى للنفس : { وَهُوَ الَذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً } [الفرقان: 62].

    كـل يــــوم يأتي هو فرصة لمن كان على قيد الحياة، فهذه الأيام لا تتعاقب بلا نهاية، بل لكل إنسان منها عدد محدود، يبدأ يوم ولادته، وينتهي يوم وفاته.

    إن قراءة الــزمـن ـ على ضوء الآيات والأحاديث وأقوال أهل العلم والإيمان ـ تنتهي بالعبد إلى نتيجة أخيرة، هي: أن أحسن ما يقدم بين يديه في هذه الأيام هو العمل الصالح، وأول عمل صالح يقدمه بين يديه هو التوبة الصادقة، فيقبل على ربه بالافتقار، ويعتذر إليه عن التقصير في الـقـيـــام بـواجـب العبودية؛ لعل توبته تلك تشفع له بين يدي أعماله القليلة الهزيلة.

    إن دورة اليوم، ودورة الأســبـوع، ودورة الشـهـر، ودورة العام: كل منها يعطي مثلاً لعمر الإنسان، قال الله (تعالى): { اعْلَمُوا أَنَّمَا الحَيَاةُ الـدُّنــْـيَـــا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَراً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَــا الحـَـيَــاةُ الدُّنْيَا إلاَّ مَـتَـــاعُ الغُرُورِ } [الحديد: 20].

    ففي هذه الآيات تعريف للدنيا وما يفعل الناس فيها؛ فهي لعب ولهو وزينة وتفاخر وتكاثر فـي الأمـــوال والأولاد، ومثالها في سرعة الانقضاء كمثل النبات يتم دورته في مدة يسيرة: فبينما هو نبت صاعد أخضر، إذا هو هشيم أصفر.

    وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- ـ فيما رواه الحاكم وابن المبارك في الزهد بسند صحيح من مرسل عمرو بن ميمون ـ : « اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وغناك قبل فقرك، وحياتك قبل موتك » .

    ففي هذا الحـديـث: أن الزمن سريع الزوال، والدنيا فرص، إذا لم يغتنمها صاحبها فاتت وذهبت، فالشباب لا بد يأتي بعده الهرم، والحياة يأتي بعدها الموت.

    قال الحسن الـبـصــري:إنما أنت أيام مجموعة، كلما مضى يوم مضى بعضك، وإنما أنت بين راحلتين تنقلانك، ينقلك الليل إلى النهار، وينقلك النهار إلى الليل، حتى يسلمانك إلى الآخرة، فمن أعـظـم مـنـك يـــا ابن آدم خطراً، والموت معقود بناصيتك، والدنيا تطوى من ورائك؟.

    لـقـد الـتـفــت الـحـسـن الـبصــري (رحمه الله) في هذه القولة إلى البعد الزماني في تعريف الإنسان، فهو مجموعة من الأيام إذا مضى منها يوم مضى منه بعضه حتى ينتهي.

    لقد قال بعض العارفين يصف الدنيا: إنها أنفاس تُعد، ورحال تُشد وعارية ترد، والتراب من بعد ينتظر الغد، وما ثمّ إلا أمل مكذوب، وأجل مكتوب، فكيف يغفل مَن يَوْمُه يهدم شهره، وشهره يهدم سنته، وسنته تهدم عمره، وعمره يقوده إلى أجله.

    إن التفكر في حقيقة هذا الزمن على ضــــوء تصور الإسلام للحياة الإنسانية ضروري للقيام بتجديد شامل ومستمر في الأفكار والأعمال، فهو يكشف له أن بضاعته في هذه الحياة هي الزمن، وكل يوم يبزغ فجره فرصة إمهال ـ قد تكون الأخيرة ـ وبعدها العذاب الشديد أو المغفرة والرضوان.

    إن هذا التفكر في ذلك البعد هو الذي يوقف داء التسويف الذي يعاني منه كثير من الناس عندما يَعِدون أنفسهم بالتوبة عدة مرات، ويـقــولون: غداً غداً، فيجيء الغد ويصير يوماً، ويصير اليوم من بعد ذلك أمساً، وهم على حالهم، مغترون بالعافية والستر، لا يذكرون ما بين أيديهم من أهوال وأخطار، حتى يفجأهم الموت في وقت لم يتوقعوه، ويصرعهم في يوم لم ينتظروه، فتفوتهم فرصة التوبة والتدارك.

    ولا يحسبن أحد أن التفكر الذي ندعو إليه هو تــلـك الأفــكـــار السوداوية التي تدعو إلى التشاؤم بهذه الحياة، بل نحن ندعو إلى تأمل إيجابي فعال، تـكــون ثمرته إعادة النظر في عوائد الحياة، وتصحيح ما لا يتفق مع قيمتها وأمانة الاستخلاف فيها.

    إنه ما لم يستحضر الإنسان حقيقة الزمن بين عينيه بكل خطورتها فلن يتقدم خطوة واحدة في توبته، لكنه إن ذكر أن عمره ينقص ولا يزيد، وأنه يسعى في هدمه منذ نزل من بطن أمه، وأنه في كل يوم مودع.. تنبه وتيقظ، ولم يؤخر عمل اليوم إلى الغد؛ لأن للغد عمله.

    وما أدري وإن أَمّـلــتُ عـمـراً لعلي حين أصبح لست أمسي
    أَلـم تــر أَن كــل صباح يـــوم وعـمرك فـيه أقص ر منه أمس

    الحافز الثالث : النظر إلى الماضي:

    خلق الله (عز وجل) الإنسان بقدرات عقلية متميزة، ومنها الــقـــــدرة على التذكر، وهذه القدرة التي أوتيها الإنسان دون سائر الحيوانات ليست من أجل التعرف على الأشياء عند رؤيتها، أو من أجل إتقان المهن والحرف والمهارات، أو من أجل الـقـــراءة والكتابة... أو غير ذلك من منافع الذاكرة فقط، بل هناك مهمة أخرى أسمى من هذا كله، هي: استرجاع الماضي بقصد المحاسبة والمراجعة، قال الله (تعالى): { لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ القِـيَـامَةِ (1) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ } [القيامة: 1، 2].

    والله (عز وجل) إذا أقسم بشيء من مخلوقاته: فإما لأجل بيان قدرة هذا الـشـيء ومنزلته، أو للتنبيه على ما فيه من دلائل الحكمة الإلهية، وفي هذه الآية أقسم (سبحانه) بـالنـفـس اللوامة تنبيهاً على هذه الآية العقلية، وهي: قدرة الإنسان على التفكير بعامة والـتـذكــــر بخاصة، وثانياً : تنويها بهذه النفس التي استعملت هذه القدرات العقلية فيما خلقت لها ولم تقصرها على جانب التسخير والانتفاع فحسب، فجعلتها للتفكر والمحاسبة والاعتـبار أيضاً.

    إن الماضي لا يرجع، ولكن الإنسان يستطيع أن يسترجعه من الذاكرة، فإذا أحداثه حاضرة فـي وعــيـه وشـعـوره ينظر إليها، فإذا كان القصد من استرجاعها هو المحاسبة والمراقبة، فنحن أمام حافز آخر من حوافز التوبة.

    إن الذي ينسى مـاضــيه بمجرد مروره لا يمكن أن يصحح حاضره أو يخطط لمستقبله، لأنه يعيش عمراً متقطعاً مـنـفـصلاً بعضه عن بعض، ولكن الذي يرى عمره سلسلة واحدة متصلة الحلقات، يأخذ من ماضيه لحاضره، ومن حاضره لمستقبله، وهذا الذي يأخذه هو الدروس والعبر، وهو التجارب والخـبـرات، فـالـــذي يـفـكـر في ماضيه على ضوء الطموحات التي اختطها لنفسه في الحياة، وعلى ضوء الغاية التي يسـعـى إليها، وهي رضوان الله والجنة، يستقل طاعاته لا محالة، ولسان حاله في كل مرحلة: لو استـقـبلت من أمري ما استدبرت لفعلت كذا ولتركت كذا، فيتدارك ما استطاع، ويعوض عما فات ويسابق الأيام في ذلك.

    بهذا يؤدي الماضي للمسلم الذي ينظر فيه مهمة جليلة؛ لأنه يـتـحــول إلى ناصح وموجه، يدلي بمشورته عند الحاجة.

    وإذا كانت التوبة الصحيحة تمحو ما قبلها، فإن هذا لا يعني أن المسلم إذا تاب ينسى ما قــدمـــت يــــداه : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } [الكهف: 57].

    لكنه بعد التوبة يحـتـفــظ لـماضيه بهذه المهمة الإيجابية، وهي: الحث على الاستدراك وإصلاح الأخطاء، وهذا مـعـنــى قول بعض العلماء: معصية أورثت ذلاً وانكساراً خير من طاعة أورثت عجباً واستكباراً.

    الحافز الرابع: النظر إلى المستقبل:

    إذا كان الجـسم الإنساني مـحـصــوراً في الحاضر، خاضعاً لسلطته: فإن القلب يستطيع أن يتحرر من هــذه السلطة ليرتاد أغــوار الـمـاضــي وآفاق المستقبل، فيرى حياته في أطوارها الماضية والحاضرة والمقبلة، والذي ينظر إلى حياته بهذا الشكل الممتد ولا يـبـقـى سـجـيـن الحـاضـر هو الــذي يرى عواقب الأمور في بداياتها، فيغنم خيرها، وينجو من شرها؛ لأنه يُعِد لكل أمر عدته ويلبس لكل حالة لبوسها، ويتصرف أمام كل موقف بما يناسبه، لا قبل الأوان ولا بعد الأوان.

    وإذا كان نـظـر المسلم إلى ما مضى يجدد عزمه ويشحذ همته، ليكون في يومه أفضل منه في أمسه، فإن نظـره إلى المستقبل يحثه على المسارعة بتنفيذ ما عزم عليه من توبة وتصحيح، فالآجال بيد الله وحـــده، والأعمال بالخواتيم، والمستقبل يشمل ما ينتظره بعد الموت من أهوال القبر، وما ينتظره بعد البعث من أهوال الحشر والحساب.

    إنه لا يدري متى يستدعى، ولا يدري ما اسمه غداً، ولايدري أيخف ميزانه أم يثقل، ولا يدري أيكون من السعداء أم من الأشقياء.

    كيف ينسى المسلم هذا المستقبل وهو معني به، وسيعيش لحظاته لحـظـــة لحظة، ويجتاز أطواره مرحلة مرحلة، حتى يكون مثواه في الجنة أو في النار.

    وإنما يغفل عن هذا المستقبل من ضعفت خشيته، وبهت يقـيـنـــه باليوم الآخر، وران على قلبه ما كسب من خطيئات، يلعب بالنار وهو لاهٍ غـافـــل، ويقف على حافة الهاوية وهو سادر معرض، حتى يفجأه الموت وهو على عمل من أعماله الرديئة، فيهلك هلاك الأبد.

    إنه لا ينجي من سوء الخاتمة إلا الـتـفـكــر الــدائـم في المستقبل، والمستقبل يبدأ من اللحظة الآتية، ومن خاف سوء الـخــاتمة اجتهد في توسيع دائرة الإحسان في حياته وتقليص هامش الإساءة، وهذه هي التوبة الثانيـة بمعناها الواسع، فإنه لا يودع فترة من حياته إلا وقد شهد فيها إسلامه تحسناً جديداً.

    الحافز الخامس: الشعور بالاصطفاء:

    لقد مـضـت سـنـة الله (تعالى) في الناس أن يكون أهل الهداية قلة وأهل الضلالة كثرة { وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَـــرَصْــــتَ بِمُؤْمِنِينَ } [يوسف: 103] ، { وَإن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ } [ الأنعام: 116]، { وَتَــمَّـــتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [هود: 119] ، { اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُــكْـــراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ } [سبأ: 13] ، { وَالْعَصْرِ (1) إنَّ الإنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إلاَّ الَذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } [العصر: 1 3].

    والتفكر في هذه الحقيقة الإلهية ، وتتبع شواهدها في التاريخ والواقع: من أعظم الحوافز التي تدعو إلى التمسك بالهداية ، والتشبث بأسبابها ، والحذر من عوامل سلبها ، فالذي يعـلــــم أنه بالتوبة الأولى قد التحق بالموكب الكريم من المؤمنين الصالحين ، وانتمى إلى الصفوة المختارة من عباد الله يتقدمهم الأنبياء والمرسلون: يعمل أقصى جهده ليتبوأ أفضل مقعد في هذا الموكب ، ويأخذ أحسن موقع في هذا الصف ، ولا يزال يجاهد نفسه ويحملها على الأحسن والأصوب ، وحتى يدرك من المراتب ما لا يشاركه فيه إلا القليل من الناس.

    وأي شيء يهدده في هذه النعمة ، ويحرمه من هذه المعية الطيبة وهذا الجوار المقدس: يبعد عنه ويحذر منه.

    هذا الـشـعـــور بالاصطفاء الذي يبدأ في القلب عقب التوبة الأولى ، ويزداد ويعظم بالتوبة الثانية: هو الذي يهون على النفس سائر المعاصي مهما تكن جاذبيتها؛ لأنه عندما يضع تلك اللذات في كفة ، ويضع هذا الاصطفاء في كفة ، ويكون ذا عقـل ورأي: لا يرجح إلا الثاني ، ولا يأنس إلا به ، وكيف لا يأنس وقد وجد الطريق ووجد الرفيق؟!.

    الحافز السادس: التأسي برسول الله -صلى الله عليه وسلم-:

    إن الـتـأســي برسول الله -صلى الله عليه وسلم- فــوق أنـه فرض واجب ، فهو من أعظم الحوافز التي تدعو المسلم إلى تجديد إسلامه باستمرار.

    والتأسي برسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليس عمل يــوم أو ليلة ، ولكنه عمل كل يوم وكل ليلة حتى الوفاة ، فقد جمع الله (عز وجل) الـكـمــالات البشرية في نبيه -صلى الله عليه وسلم- ، وزكى سيرته من فوق سبع سماوات لتكون قــدوة للناس ، فكل مسلم مأمور أن يدرس هذه السيرة بنيّة التأسي والاتباع ، قال الله (تـعـالـى): { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً } [الأحزاب: 21].

  2. #2
    ... V I P...


    تاريخ التسجيل
    Oct 2004
    المشاركات
    3,642
    معدل تقييم المستوى
    4

    افتراضي

    [align=center]جزاك الله خير

    وجعل مانقلت في موازين حسناتكـ

    لايفووووووووووتكـ
    [/align]

  3. #3
    كبآآر الشخصيآت

    تاريخ التسجيل
    Mar 2005
    الدولة
    عـا ( الأحاسيس ) لـم
    المشاركات
    39,241
    معدل تقييم المستوى
    40

    افتراضي

    الدره المكنونه

    ربي لا يحرمك من الأجر

    والثواب ..

    ويسعدك في الدارين

    أشكرك للطرح القيم والمفيد

    دمتي بصحة وعافية

  4. #4
    مشرفه سابقه

    تاريخ التسجيل
    May 2005
    المشاركات
    7,935
    معدل تقييم المستوى
    8

    افتراضي

    بارك الله فيك

    على الطرح الرائع
    وجعله ربي في ميزان حسناتك

    دمتم بخير

  5. #5
    عفوك يارب
    تاريخ التسجيل
    Oct 2006
    المشاركات
    22,472
    معدل تقييم المستوى
    23

    افتراضي

    الدره المكنونه

    جزاك الله ألف خـــــير

    زجعله في ميزان حسناتك أختي

    تحياااااااتي

المواضيع المتشابهه

  1. (( آرقـِآم فـِي جسْم آلآنسـآإن ، ، ‘ ))
    بواسطة نَجمـہ سهَيل في المنتدى عالم حواء
    مشاركات: 8
    آخر مشاركة: 04-07-2011, 02:12 AM
  2. همـــج ..رعــاع..!!
    بواسطة الحياه مبدأ في المنتدى الارشيف
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 09-12-2007, 12:53 PM
  3. مشاركات: 13
    آخر مشاركة: 10-09-2007, 06:12 PM
  4. مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 10-12-2006, 08:12 PM
  5. إلـــى الـفـارس
    بواسطة أسيرة الخليج في المنتدى قصائد وخواطر
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 25-02-2006, 05:42 PM

مواقع النشر (المفضلة)

مواقع النشر (المفضلة)

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •