تمتاز الشريعة الإسلامية في مجال العقوبات عن القوانين الوضعية إلى جانب فاعليتها في منع الجريمة، واستتباب الأمن، وأثرها الكبير في تقويم الفرد والمجتمع بأنها لم تقتصر على الجانب الظاهري، فلو كان الأمر كذلك، لقربت منها قوانين وضعية أثبتت فاعليتها إلى حد ما في هذا المجال، لكنها بالإضافة إلى هذا الجانب العملي الإجرائي من جانب السلطة القائمة في المجتمع، ركزت على الجانب الخلقي، فربطت قوانينها بضوابط السلوك الإنساني.
والمقصود بهذا أن الإسلام لم يجعل العقوبة الدنيوية، وإجراءات تنفيذها مركز إصلاح الفرد والمجتمع، بل أولى اهتماماً بالغاً لتكوين الضمير لدى الإنسان، كي تكون الوقاية من الجرائم نابعة من الذات، لأن فاعلية هذا الجانب ذات أثر بالغ في حياة الأفراد؛ إذ لو كان الأمر مقصوراً على توقيع عقوبة دنيوية فحسب، لهان الأمر عند كثير من الذين يميلون بطبعهم أو بتأثير البيئة إلى ارتكاب الجرائم، لأنهم يستطيعون الإفلات في معظم الأحيان من يد القائمين على حراسة المجتمع، أما إذا نجح الدعاة في غرس الروح الإسلامية في المجتمع، فسوف يدرك كل من تسول له نفسه ارتكاب جريمة أنه سوف يعاقب عليها لا محالة، حتى إن لم تقع عليه أعين الرقباء، لأن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، فإن لم يؤخذ بجريمته في الدنيا لسبب من الأسباب كأن لم يره أحد، أو لم تتوافر أدلة الإثبات عند القاضي فإن العقاب سيقع عليه حتماً في الآخرة، ومما لاشك فيه أن لغرس هذه الروح في المجتمع آثاراً طيبة في مجال انحسار الجريمة.
ومن هذا الجانب ارتبطت الشريعة الإسلامية بالضمير الإنساني، وكان لأحكامها صدى في وجدان الناس، حيث يحس المؤمن بأنه في رقابة مستمرة، لأنه إن خفي عن أعين الناس، فإنه لا يخفى على الله عمله، مهما قل قدره، أو توارى به خلف جدران وأستار، يقول الله تعالى: “يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور”.
فارتباط الشريعة الإسلامية بالضمير الإنساني، وشمولها على خاصية الجزاء ثواباً وعقاباً من المزايا الجليلة التي لا توجد في أي قانون وضعي، إذ تجعل الأفراد في وقاية نفسية من الجرائم، وبذلك تحول بين المسلم وبين الوقوع في الجريمة، لخشية الله، ولإحساسه بأنه مطلع على ما يفعل، وأنه مطالب بأن يخشى الله أكثر مما يخشى السلطة الحاكمة.
كما أن تعاليم الإسلام بإحيائها الضمير الإنساني تغرس في نفس المؤمن الاطمئنان والرضا بما قسم الله له، فلا يشتهي ما بيد الآخرين، ولا يحقد على أحد ممن أعطاهم الله من فضله، فيبرأ من دوافع ارتكاب الجريمة، لأن الحقد والرغبة في تملك ما بيد الغير، هما سبب ارتكاب الجرائم في الغالب الأعم.
ولو حدث أن ضعف الضمير الديني لدى المسلم فارتكب جريمة، فسرعان ما يستيقظ ضميره، فيعترف بما ارتكب كي يطهر نفسه مما لوثها. فقد روي أن رجلا وجد في خربة، وبيده سكين ملطخة بالدم وبين يديه رجل “يتشخط” في دمه، فسأله علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال: أنا قتلته. فقال علي: اذهبوا فاقتلوه، فلما ذهبوا به جاء رجل مسرعاً، فقال: يا قوم لا تعجلوا به، ردوه إلى علي، فردوه، فقال: يا أمير المؤمنين ما هذا صاحبه، أنا قتلته، فقال علي للأول: ما حملك على أن قلت: أنا قتلته، ولم تقتله؟ قال: يا أمير المؤمنين، وما أستطيع أن أفعل، وقد وقف العسس على الرجل “يتشخط” في دمه وأنا واقف وفي يدي سكين، وفيها أثر الدم، وقد أخذت في خربة، فخفت ألا يقبل مني فاعترفت بما لم أصنع، واحتسبت نفسي عند الله، فقال بئس ما صنعت، فكيف كان حديثك؟ قال: إني رجل قصّاب، خرجت إلى حانوتي في الغلس، فذبحت بقرة وسلختها، فبينما أنا أسلخها والسكين في يدي أخذني البول، فأتيت خربة كانت، فدخلتها، فقضيت حاجتي، وعدت أريد حانوتي، فإذا أنا بهذا المقتول “يتشخط” في دمه، فراعني أمره، فوقفت أنظر والسكين في يدي، فلم أشعر إلا بأصحابك قد وقفوا علي، فأخذوني. فقال الناس: هذا قتل هذا، ما له قاتل سواه، فأيقنت أنك لا تترك قولهم لقولي، فاعترفت بما لم أجنه. فقال علي للمتهم الثاني: فأنت، كيف كانت قصتك؟ فقال: أغواني إبليس، فقتلت الرجل طمعاً في ماله، ثم سمعت حس العسس، فخرجت من الخربة واستقبلت هذا القصاب على الحال التي وصف، فاستترت منه ببعض الخربة، حتى أتى العسس وأخذوه، وآتوك به، فأمرت بقتله، وعلمت أني سأبوء بدمه أيضاً، فاعترفت بالحق.
ولم يحمل الجاني على هذا الاعتراف سوى الخوف من الله، وهذا دليل على ما يفعله الإيمان في نفوس الناس، فعندما يستيقظ الضمير من غفلته، يقود صاحبه إلى محاولة تصحيح خطئه بقدر ما يستطيع.
مواقع النشر (المفضلة)