[moveo=left]# الديمقراطية الغربية والمنهج الإسلامي .[/moveo]
أثبتت الأحداث التاريخية أن مرحلة التحول من أخطر المراحل التي تمر بها المجتمعات البشرية، لأنها مرحلة الصراع الحاد بين التيارات الفكرية المختلفة في منابعها ومصادرها، والمتنافرة في مضمونها وأشكالها، والمتباعدة في أهدافها وغاياتها، ذلك أن نظام الكون قائم على مبدأ الحركة والنمو، وأساس ديناميكية الحياة منحصر في التغير، فإن غاب ذلك عن أذهان الناس توقف نبض الوجود، وسكنت حركة الحياة إلى الأبد، لكن تعود الناس على المألوف، وخوفهم من المستقبل، دفعهم إلى الاعتقاد بأن كل جديد يحمل في طياته خطرا داهما ينقض الأسس التي استقرت على حياتهم، ويزعزع الاستقرار الذي ألفوه وتعودوا عليه، حتى وإن كان سببا فيما هم فيه من انحطاط وتخلف، فهم يرضون بما وجدوا عليه آباءهم، وشبوا وترعرعوا في ظله، وإن كان في بعض جوانبه ما يعوق مسيرة تقدمهم، ويعجزهم عن الوصول ما يزيل عنهم أثقالهم، ويخفف عنهم آلامهم، ومن هنا يبدأ الصراع بين: من ينادي بالتخلص من آثار الماضي، ويدعو إلى فتح الذراعين لكل ما هو جديد، وقبول كل مستحدث، لأن ذلك في رأيه يدفع عجلة الحياة إلى التقدم، ويساعد على التخلص من آثار الماضي حيث التخلف والانحطاط في كل مجالات الحياة.
وبين من يرفض التجديد ويصر على التمسك بالقديم مهما كانت قيمته وأثره في الحياة، فهم يرون أن الجديد لا وزن له، فلا يجوز قبوله، ولا جذور له تثبت وجوده في المجتمع، وتحمل الإنسان على التعامل معه، “فهو بدعة” تضل من يتبعها فتقوده إلى سحيق، يفقد في هويته، وتذوب ملامحه في خضم الصور والأشكال الجديدة، فتتلاشى ذاته، ويتفكك كيانه بصيرورته تابعا من توابع هذا الوفد الجديد.
وبين هؤلاء وأولئك فريق لا يتحمس للجديد، بل تضطره ظروف الحياة إلى التعامل معه، ولا يتنكر للقديم، ولكن يغض الطرف عنه تحت ضغط الظروف المعيشية، ويبتعد عنه أمام معطيات العصر ومتطلبات الحياة، ولذلك تراه مضطرب الفكر، مشوش الفؤاد، تتنازعه الإتجاهات المتعددة، وتتقاذفه التيارات الفكرية من كل صوب، يسمح لمن يتمسكون بالقديم فيميل كلية إليه، وتستأنس عواطفه بما يرددونه من حجج وبراهين، لأن جذور القديم تمتد في أعماقه، وتتشعب في أحاسيسه وعواطفه، ويصغي إلى الذين ينادون بالتجديد فلا ينكر لهم صوتا، ولا يرفض لهم حجة أو دليلا، لأن واقع الحياة يؤيدهم، والرغبة في التقدم والرقي تصدقهم، والأمل في التخلص من سيطرة من ملكوا زمام تكنولوجيا العصر تساندهم، وتحمل المترددين إلى الانحياز لصفوفهم.
فإذا كان موقف المجددين المحافظين واضحا، فإن موقف سواد الأمة يظل متأرجحا، فهو يتذبذب بين هؤلاء وأولئك، وأحيانا يميل كل الميل إلى جانب المجددين، وذلك عندما تتغلب المصلحة الدنيوية، ويتضح أثر الحضارة وبريقها في العيون والأسماع، وأحيانا أخرى يتعصب للقديم، إذا تغلبت المشاعر، واتقدت العواطف، وتأججت الأحاسيس.
هذه هي صورة المجتمعات الإسلامية المعاصرة، إذ عندما اتصلت اتصالا مباشرا بالحضارة الغربية، تفتحت أعين المسلمين على أنماط من الحياة، ونماذج من السلوك، لم يعرفوها من قبل، وليست لهم دراية بكنهها وأبعادها، اللهم إلا ما وقر في أذهانهم بأن ما عليه تلك الأمم من تقدم ورقي في مجال الإنتاج بجميع فروعه، راجع إلى اختيارهم لهذه الأساليب في تنظيم شؤون الحياة، وتوجيه سلوك الأفراد في المجتمع، فاندفع فريق من المسلمين ينادي بالتخلص من كل آثار الماضي، واتخاذ نماذج الحياة الغربية أساسا لنا في تنظيم حياتنا، وتشكيل سلوكنا حتى نستطيع اللحاق بهم في مسيرة التقدم والرقي، ومن بين ما اشتملت عليه هذه الدعوة: المناداة بأن نقتفي أثرهم في كل المجالات، سواء كانت سياسية أم اقتصادية أم اجتماعية، ويستلزم هذا أن نحرر هذه المجالات من سيطرة الدين، بحجة أن الإسلام لم يعد مناسبا للحياة في العصر الحديث، ولذا ينبغي أن ينحصر في مجال العبادات فقط، أي لابد أن يكون هناك فصل بين الدين والدولة، وهو ما يطلقون عليه اسم: “العلمانية”، فالدولة العلمانية هي التي لا يكون للدين فيها سلطان على أمور الحياة، بل ينحصر في دور العبادة تاركا شؤون الحياة يسيرها الناس بالطريقة التي يرونها صالحة لهم. وكان من الطبيعي أن يعارضهم فريق آخر، يرى أن الإسلام دين ودنيا، مسجد ومؤسسات للحياة في جميع مجالاتها، مستدلين على ذلك بما روته كتب التاريخ من نماذج أثبتت أن الإسلام قاد أمة مترامية الأطراف. ومتعددة الأجناس والأعراق بصورة يعجز أي نظام عن بلوغ مثلها في تحقيق الحرية، والعدل، والكفالة الاجتماعية، وفي تهيئة الظروف التي تساعد على التقدم والابتكار والاختراع، فإذا أردنا الإسراع في ركب الحضارة فالإسلام يحقق لنا تفوقا على جميع الأمم في هذا المجال، لو طبقناه كما ينبغي، وكما أراد الله لنا في ظله. والواقع أنه لم يصل كثير من المتحدثين باسم الإسلام في العصر إلى درجة من الثقافة والمعرفة تمكنهم من فهم واقع المجتمعات الإنسانية المعاصرة، أو التفريق بين ما يتحتم الأخذ به في الظروف الراهنة، وما ينبغي رفضه، فلا يجوز السماح بوجوده في المجتمعات الإسلامية بأي حال من الأحوال مما دفعهم إلى رفض كل ما يتعلق بالحضارة الحديثة، حتى ولو لم يكن له تأثير سلبي على الجانب الديني أنكروا التعامل مع كل مظهر حضاري، حتى وإن لم ينكره الدين أو يحرمه، وصنعوا قيودا على سلوك الناس اعتمادا على رأي فقيه، وليس استنادا إلى نص صريح، اتسمت فتاواهم بالتضييق وتقييد حرية الناس، على الرغم من النصوص الصريحة التي تبين أن الله لم يجعل على الناس حرجا في الدين، بل هو تهذيب وتقويم في إطار السهولة واليسر.
مواقع النشر (المفضلة)