في أعماق الريف الأمريكي كانت نشأة (جفري) في بيئة زراعية، فتح عينيه على مشاهد الطبيعة الخلابة، واستنشق روائح الطبيعة الحقيقية، وأبصر الأزهار الندية والأوراد الشذية، وتأمل جريان الأنهار وتحليق الأطيار وكثافة الغابات وجمال الآفاق.
كان يحب التأمل، يشاهد تلك المناظر الآسرة وفكره يحلق بينها بجناحين من محبة وصفاء، وعقله يفكر في يد القدرة التي أبدعت هذا الجمال.
كانت أجمل اللحظات هي تلك التي يلقي فيها اهتمامَه إلى نبات صغير، يتابعه بحرص يومي، ويعجب كلما نما، ويسعد حين يراه قد كبر واستوى.
كانت حياة الريف ذات يسر في المعيشة وبساطة في الحياة، كانت تبتعد عن ترف المدن وصخبها وضجيجها وتلوثها وانحلالها، كان الريف يحتفظ ببقايا فطرة سليمة، ويأنف مما يرى ويسمع من تفلت خلقي في المدن، وكانت الحياة وسط الأجواء الطبيعية تكسب سكان الريف حسا مرهفا وذوقا رفيعا يرقى بأخلاقهم ويحافظ على تماسكهم.
لكنهم لم يكونوا على علم كاف بالأديان، حتى ديانتهم المسيحية لا يعرفون عنها الكثير، وإنما أمور يسيرة أساسية، ولم يعرفوا عن الإسلام شيئا.
ولما أنهى (جفري) المدرسة قرر أن يتابع دراسته الجامعية في المجال الذي جذبه وأسر قلبه منذ نشأته، مجال الأحياء من نباتات وحيوانات، كان يحب أن يتأملها، ويبحث فيها، ويكتشف أسرار خلقها وجمال إبداع صنعها.
موقف غريب
انتقل إلى الوسط الجامعي واختلط أكثر بهذا المجتمع الجديد، وعرف عادات أفراده، وفهم نفسياتهم، وعايش سلوكياتهم، وأدرك طبيعة حياتهم، وبدأ يندمج بها شيئا فشيئا.
وفي إحدى الحفلات الجامعية شد انتباهه موقف غريب، لم يسبق أن رأى مثله في حياته كلها، فلقد كانت كؤوس الخمر تدار على الحضور في الحفل وكان الكل يأخذ كأسه ويشربها، لكن أحد الشباب الحاضرين امتنع عن قبولها، ورفض شربها أو أخذها من الساقي.
كان موقفا مدهشا لجفري الذي رأى إقبال المجتمع كله على هذا الشراب، ولم ير من يرفضه أو ينفر منه، فشده ذلك الموقف واشتعل الفضول في نفسه على غير المعتاد منه، فهو ليس فضوليا وليس ممن يحب أن يعرف شؤون الناس الخاصة.. لكن دهشته كانت أقوى، وأثر الموقف جعله يأتي بتصرف غريب عليه، فقد اتجه إلى هذا الشاب وبدأ يتحدث معه، وسأله عن سر رفضه.
وتحدث الشاب الباكستاني كما عرف جفري من حواره معه، فعرّف سائله بسبب رفضه، وأخبره أن الخمر مُحرّم في دينه الإسلامي، وأن له أضرارا كثيرة يجدرُ بالعاقل أن يتركها من أجله، وأخبره أن دينه يختار الصالح فيبيحه، ويحرم الضار ويمنعه حرصا على الإنسان ومصلحته وراحته، واختيارا للأحسن له، وصيانة عما يؤذيه.
تأججت نار الفضول في نفس (جفري) بدل أن تنطفئ كما كان يظن بحديثه إلى هذا الشاب الذي رفض شرب الخمر، وانطلقت أسئلته متتابعة من فمه: ما هذا الدين؟ بم يأمر؟ عم ينهى؟ كيف يعرف الضار من النافع؟ كيف وصل إليك؟ كيف تعتنقه؟ من الذي جاء به؟ ما مصدره؟ بم يُلزمك؟ ما مبادئه؟ ماذا يعجبك فيه؟
وتدفق نهر المعلومات من قلب ذلك الشاب المؤمن، كان يتحدث بثقة تأخذ بلب السامع، وبمحبة تنتقل إلى من يراه ويسمعه، وبسعادة تدهش من يسأله.
جمر التساؤلات
طال وقت الحديث ثم افترقا مع وعد باللقاء كان (جفري) ينتظره وكأن فراشه حشي جمرا لا يستطيع أن يستقر عليه لفرط الشوق واللهفة، كان باب جديد يفتح أمامه وينشر على نفسه الضياء والنور، لم يفهم سر هذا الإحساس الغامر بالراحة، لكنه كان منشرح الصدر مسرور النفس رغم ما تمتلئ به من لهفة وقلق وفضول وشوق للمعرفة.
وتعددت اللقاءات مع الشاب المسلم، وتلقى منه هدايا كان في حاجة شديدة إليها وهي كتب إسلامية، وأخذ يقرأها ويدرسها فيها بإقبال صادق، وكان يقارن ما يجد فيها بما يراه حوله من انحلال وعنف وجرائم، كان المقروء يستولي على عقله بيسره ووضوحه، ويسكن قلبه بسماحته وجماله.
استيقظت الفطرة الأصيلة في نفسه، واستعاد حياته الريفية وتأملاته الفكرية، وبدأت رؤيته تتضح شيئا فشيئا حول الدين الجديد الذي يقرأ عنه.
وبدأت أسئلة جديدة من وحي ما يقرأ، بدأ يسأل عما لا يفهمه، أو ما يوحي له بتعارض، أو ما لا يجد له جوابا في الكتب التي بين يديه، وكان صاحبه المسلم يجيبه عما يسأل بصبر، واستمر ذلك وقتا إلى أن أسعد (جفري) صاحبه المسلم بالنطق بالشهادتين بين يديه بعد أن اقتنع عقله اقتناعا تاما، وانشرح صدره براحة لم يذقها في حياته قط.
ومع دخوله في الدين الجديد نشأت في صدره طموحات جديدة، حيث عزم على حفظ القرآن ودراسة التاريخ العربي والإسلامي، كما اطلع على معظم فروع المعرفة الإسلامية، وكان يهدف إلى استكمال الأدوات التي تمكنه من أن يكون داعية في بلده، وخاصة في الريف، حيث لمس بنفسه الفطرة الباقية على نقائها إلى درجة كبيرة في هذه المناطق التي تأنف من فساد المدن، وترفض ما فيها من انهيار اجتماعي، وهذا ما يجعل الداعية (حسن) كما أطلق على نفسه بعد إسلامه في أمل كبير وتفاؤل عظيم بمستقبل مشرق للريف الأمريكي في ظل الإسلام الذي آمن به، وبدأ يدعو إليه على هدى وبصيرة.
مواقع النشر (المفضلة)