يبقى الإسلام في روسيا هو الشغل الشاغل في الحياة السياسية والاجتماعية في البلاد ليس فقط في يومنا هذا بل حتى في زمن الإمبراطورية الروسية، وعلى الرغم من أن فترة الاتحاد السوفييتي لم يكن فيها مجال للكلام عن أي حوار بين الدين والدولة، فقد تواصلت الحياة الدينية، ولكن لم يجر تشجيع أداء الشعائر الدينية، حيث كان من يؤديها يتعرض للملاحقة. وتوصف نهاية القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين بأنها فترة “الصحوة الدينية” الروسية وبضمنها الإسلامية بالطبع.
ويروي حضرت مرتزين رئيس الجامعة الاسلامية في موسكو أنه نفي الى المناطق السيبيرية في أماكن تفتقر الى ابسط الظروف المعيشية ناهيك عن البرد القارس الذي تتسم به المنطقة، خصوصاً بعد أن علموا أنه “مسلم”، وان مثل هذا الحال لم يشمله فقط بل هناك العشرات ممن أبعدوا لا لشيء سوى لكونهم “مسلمين”.
وجامع النصر الذي يقع في الجانب الجنوبي لساحة النصر المشهورة في قلب العاصمة موسكو، والى جوار “بانوراما الحرب العالمية الثانية”، تلك الساحة التي يرتادها عشرات المئات يومياً وعشرات الألوف في أيام الأعياد، تم بناؤه على الطراز الاسلامي القديم ليمثل علامة بارزة في المنطقة، كونه يقع على الأرض الأكثر ارتفاعا في الساحة، ولذلك يمكن رؤية الجامع من مسافة بعيدة على العكس من دور العبادة الأخرى التي شيدت في المنطقة والتي اختيرت لها أماكن لتكون قريبة فقط لمن يرتاد هذه الساحة.
ويختلف المؤرخون المسلمون حول طبيعة القباب الخمس الموجودة في الطراز المعماري للجامع المشيد من الخارج بالطابوق القرميدي (الأحمر) فمنهم من يقول إن هذه القباب تمثل سنوات الحرب التي شارك فيها المسلمون (1941-1945) في حين يرى البعض الآخر أنها دليل على وحدة الأديان في روسيا كون هذه القباب عبارة عن الديانات الخمس الموجودة في روسيا.
ويقع الجامع تحت إشراف المجلس الأعلى للتنسيق بين الإدارات الدينية في روسيا والذي يدعو الى توحيد جهود المسلمين ومنظماتهم وتنسيق نشاطاتهم في روسيا الفيدرالية والعمل على نشر الدعوة الإسلامية وبناء المساجد وإعمارها ورعايتها واستعادة الآلاف من المساجد والمدارس الإسلامية التي لا تزال تحت قبضة الحكومة الفيدرالية. ورغم صغر مساحة الجامع الذي يتسع لحوالي 100 مصلٍ فقط، غير أنه يصبح مكتظاً بالمصلين أيام الجمع والأعياد الإسلامية وجلهم من المسلمين الجنوبيين العاملين في موسكو الأمر الذي يضطرهم الى أداء شعائرهم الدينية والصلاة أحيانا خارج المبنى رغم برودة الجو التي تصل أحيانا الى 30 درجة مئوية تحت الصفر، وهذا ما دعا القائمين على هذا المسجد التاريخي الى التفكير في توسيعه، الأمر الذي يتطلب الأموال الضرورية لتنفيذ ذلك، وجميع هذه الأموال سيكون من التبرعات والهبات التي يقدمها مسلمو روسيا، لأن حكومة موسكو خصصت قطعة الأرض التي تم عليها بناء الجامع من دون أي تخصيصات مالية أخرى
لقد شهدت إلامبراطورية الروسية في مطلع القرن العشرين بناء حوالي 12 ألف مسجد بينما لم يبق منها في الاتحاد السوفييتي في أواسط عقد الثمانينات من القرن الماضي سوى 343 مسجداً أغلبها في مناطق آسيا الوسطى وفي مطلع فترة “البيريسترويكا” في عهد جورباتشوف في عام 1985 بدأت عملية إعادة المساجد القديمة وبناء أخرى جديدة وبحلول العام 2000 بلغ عدد المساجد في أراضي روسيا الاتحادية قرابة نصف عددها قبل الثورة، وتم رسمياً تسجيل 4750 مسجداً، لكن عددها في الواقع أكثر من هذا بكثير.
ويتراوح عدد المساجد في “داغستان” وحدها بين 1600 و 3000 مسجد، ويلاحظ وضع مماثل في شمال القوقاز حيث يوجد في كل مركز سكني مصلى أو أكثر وفي تتارستان تجاوز عدد المساجد في خلال عشرة أعوام الألف مسجد، وفي العاصمة الروسية حيث يقطن أكثر من مليون مسلم و20 جماعة إسلامية توجد ستة مساجد وطبقا لتقديرات الخبراء الروس يمكن القول إن عدد المساجد في روسيا الاتحادية يربو على 7 آلاف مسجد على الأقل في الوقت الحاضر.
ونظراً لعدم وجود طائفة أو “جماعة” اسلامية روسية موحدة، فإن الباحثين لا يعتقدون أنه من الممكن تشكيل حركة سياسية اسلامية موحدة.
دور الإسلام
ويعاب على المسلمين في روسيا افتقارهم الى محاولات توحيد الصفوف على أساس ديني أو ديني سياسي، اذ يشير المراقبون السياسيون إلى أن الزعماء المسلمين في روسيا هم من الزعماء الإقليميين ولو أن بعضهم يتوق إلى كسب وضع زعيم لعموم روسيا.
أما على صعيد الأقاليم فإن عامل “الإسلام السياسي” يمارس دوراً ملحوظاً جداً، لذلك فإنه لم توجد في روسيا خلال أعوام كثيرة منظمة اجتماعية تجسد مصالح الأمة الإسلامية كلها، ونشأت بين حين وآخر أحزاب وكتل عابرة تشكلت كقاعدة بمناسبة إجراء الانتخابات في مجلس الدوما ثم كانت تزول من الوجود عملياً عقب الانتخابات، وفي نهاية المطاف تأسست للمرة الأولى في غضون خمسة أعوام حركة “الحق” الإسلامية لعموم روسيا على قاعدة معهد حقوق الإنسان، وتم تسجيلها رسمياً.
لقد شعرت روسيا الحديثة ( أي بعد سقوط الاتحاد السوفييتي) بقوة المسلمين لديها الذين يبلغ عددهم حوالي 20 مليون نسمة وتأثيرهم في المجرى السياسي في البلاد خصوصا في عملية الانتخابات البرلمانية أو الرئاسية، ولكن الدور الاسلامي الكبير في روسيا قديم حيث برز في زمان الحرب ضد النازية الألمانية، وانضمام ملايين المسلمين إلى الجيش السوفييتي وقد كرمت الدولة الكثير منهم بالأوسمة حتى إن الزعيم السوفييتي ستالين بعث ببرقية شكر إلى الزعيم الروحي لمسلمي الشطر الأوروبي من الاتحاد السوفييتي وسيبيريا عبدالرحمن رسوليف الذي قام المسلمون السوفييت بناء على مبادرة منه بتشكيل “رتل” كامل من المدرعات لمحاربة الغزاة، وقد أطلق عليه اسم “الرتل الإسلامي” رغم أنه ضم المقاتلين من أتباع الديانات الأخرى أيضاً.
وشرعت حكومة موسكو في عام 1997 في تخليد دور الطوائف الدينية في ساحة النصر أو ما تعرف بالروسية (باكلونا جارا) وبناء دور للعبادة لهم في هذه المنطقة تخليدا لدورهم في هذه الحرب وللتأكيد على ان قادة هذه الأديان من ممثلي الأرثوذكسية والإسلام واليهودية والبوذية وغيرها من الأديان يسودهم التفاهم التام لدى بحث غالبية القضايا في إطار المجلس الذي شكلوه فيما بينهم وخارجه والتأكيد على وحدة الشعب الروسي في تصديه للاعتداء الخارجي.
مواقع النشر (المفضلة)