يقول الحق سبحانه وتعالى في سورة النور: “والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون. إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم” (الآيتان: 4-5).
بعد أن نفّر الحق سبحانه من جريمة الزنا أعظم تنفير، وأمر بمعاقبة مرتكبها بدون رأفة أو تساهل.. أتبع ذلك بتشريعات أخرى من شأنها أن تحمي أعراض الناس وأنفسهم من اعتداء المعتدين فقال تعالى: “والذين يرمون المحصنات..”.
وقوله تعالى: “يرمون” من الرمي والمراد به هنا: الشتم والقذف بفاحشة الزنا، أو ما يستلزمه كالطعن في النسب.
قال الإمام الرازي: وقد أجمع العلماء على أن المراد هنا: الرمي بالزنا.
والمراد بالمحصنات هنا: النساء العفيفات البعيدات عن كل ريبة وفاحشة وسميت المرأة العفيفة بذلك لأنها تمنع نفسها من كل سوء. قالوا: ويطلق الإحصان على المرأة والرجل، إذا توفرت فيهما صفات العفاف، والإسلام والحرية والزواج.
وإنما خص سبحانه النساء بالذكر هنا: لأن قذفهن أشنع والعار الذي يلحقهن بسبب ذلك أشد.
ثلاث عقوبات
والمعنى أن الذين يرمون النساء العفيفات بالفاحشة ثم لم يأتوا بأربعة شهداء يشهدون لهم على صحة ما قذفونهن به. فاجلدوا أيها الحكام هؤلاء القاذفين ثمانين جلدة، عقابا لهم على ما تفوهوا به من سوء في حق هؤلاء المحصنات، ولا تقبلوا لهؤلاء القاذفين شهادة أبدا بسبب إلصاقهم التهم الكاذبة بمن هو بريء منها وأولئك هم الفاسقون. أي: الخارجون عن أحكام شريعة الله تعالى وعن آدابها السامية.
فأنت ترى أن الله تعالى قد عاقب هؤلاء القاذفين للمحصنات بثلاث عقوبات. أولاها: حسية، وتتمثل في جلدهم ثمانين جلدة، وهي عقوبة قريبة من عقوبة الزنا.
وثانيتها: معنوية، وتتمثل في عدم قبول شهاداتهم بأن تهدر أقوالهم، ويصيروا في المجتمع أشبه ما يكونون بالمنبوذين، الذين إذا قالوا لا يصدق الناس أقوالهم، وإن شهدوا لا تقبل شهادتهم لأنهم انسلخت عنهم صفة الثقة من الناس فيهم.
وثالثتها: دينية، وتتمثل في وصف الله تعالى لهم بالفسق. أي: الخروج عن طاعته سبحانه وعن آداب دينه وشريعته.
وما عاقب الله تعالى القاذفين في أعراض الناس بتلك العقوبات الرادعة، إلا لحكم من أهمها: حماية أعراض المسلمين من ألسنة السوء، وصيانتهم من كل ما يخدش كرامتهم، ويجرح عفافهم.
وأقسى شيء على النفوس الحرة الشريفة الطاهرة، أن تلصق بها التهم الباطلة.
حكم التائبين
وقد اتفق الفقهاء على أن الاستثناء في قوله تعالى: “إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا” يعود على الجملة الأخيرة. بمعنى أن صفة الفسق لا تزول عن هؤلاء القاذفين للمحصنات إلا بعد توبتهم وصلاح حالهم.
أي: وأولئك القاذفون للمحصنات دون أن يأتوا بأربعة شهداء على صحة ما قالوه. هم الفاسقون الخارجون عن طاعة الله تعالى إلا الذين تابوا منهم من بعد ذلك توبة صادقة نصوحا وأصلحوا أحوالهم وأعمالهم، فإن الله تعالى كفيل بمغفرة ذنوبهم وبشمولهم برحمته. كما اتفقوا أيضا على أن هذا الاستثناء لا يعود إلى العقوبة الأولى وهي الجلد، لأن هذه العقوبة يجب أن تنفذ عليهم، متى ثبت قذفهم للمحصنات حتى ولو تابوا وأصلحوا.
والخلاف إنما هو في العقوبة الوسطى وهي قبول شهادتهم. فجمهور الفقهاء يرون صحة عودة الاستثناء عليها بعد التوبة، فيكون المعنى: إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فاقبلوا شهادتهم.
ويرى الإمام أبو حنيفة أن الاستثناء لا يرجع إلى قبول شهادتهم وإنما يرجع فقط إلى العقوبة الأخيرة وهي الفسق، فهم لا تقبل شهادتهم أبدا أي: طول مدة حياتهم حتى وإن تابوا وأصلحوا. ثم اختلفوا في صورة توبته، فمذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه والشعبي: أن توبته لا تكون مقبولة إلا إذا كذب نفسه في ذلك القذف الذي حد فيه. وقالت فرقة منها مالك وغيره ان توبته تكون بأن يصلح ويحسن حاله وان لم يرجع عن قوله بتكذيب، ويؤكد كثير من العلماء ان ما أفتى به عمر رضي الله عنه هو الأولى بالقبول.
مواقع النشر (المفضلة)