أم المؤمنين زينب بنت جحش بن رئاب الأسدية، شابة شريفة حسناء من بني أسد، ابنة عمة النبي صلى الله عليه وسلم، فأمها أميمة بنت عبد المطلب.. تزوجها النبي بأمر الله تعالى في القرآن الكريم.. فكانت تفخر بذلك وتقول: “أنا أكرمكن وليا وأكرمكن سفيرا.. زوجكن أهلكن، وزوجني الله من فوق سبع سماوات”، وبهذا الزواج الميمون حسم الوحي قضية كبرى كانت شائعة في المجتمع وقتئذ وهي قضية التبني، وبه انتهت في الإسلام إلى الأبد.

قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم رجع حكيم بن حزام بن خويلد الأسدي من تجارة له ومعه رقيق، فيهم غلام في الثامنة يدعى زيد بن حارثة من كلب، خرجت به أمه سعدى بنت ثعلبة إلى أهلها في طيء فأصابته خيل من بني القين فباعوه بسوق من أسواق العرب، وجاءت السيدة خديجة وهي حينئذ زوج النبي صلى الله عليه وسلم تزور ابن أخيها حكيم، فعزم عليها أن تختار من الغلمان من شاءت فأخذت زيدا، ورآه النبي فاستوهبه منها فوهبته له راضية، وجزع عليه أبوه وخرج يلتمسه حتى سمع بمكانه في مكة، فانطلق مع أخيه كعب حتى أتيا النبي في البيت العتيق وقالا له: يا ابن عبد المطلب، يا ابن سيد قومه، أنتم جيران الله، تفكون العاني، وتطعمون الجائع وقد جئناك في ابننا أفتحسن إلينا في فدائه؟.. قال: أوغير ذلك؟ قالا: وما هو؟.. أجاب: ادعوه وخيروه، فإن اختاركما فذلك، وإن اختارني فوالله ما أنا بالذي أختار على من اختارني أحدا.

ودعي زيد فعرف أباه وعمه، وخيره النبي صلى الله عليه وسلم، إن شاء ذهب معهما، وإذا أحب أقام معه، فاختار سيده فأخذه النبي بيده، وقام به إلى الملأ من قريش فأشهدهم أن زيدا ابنه وارثا ومورثا، ودعي الغلام “زيد بن محمد”.

كان زيد في الأربعة الأولين السابقين إلى الإسلام، ولما بلغ زيد سن الزواج، اختار له النبي صلى الله عليه وسلم بنت عمته زينب بنت جحش، وكرهت زينب وأخوها عبد الله أن تزف الشريفة المضرية إلى مولى، رغم أصله العربي الصريح أبا وأما وأنه كان حرا وليس في الأصل عبدا، حتى نزل فيهما قوله تعالى: “وَمَا كَانَ لِمؤمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَل ضَلالاً مبِيناً” (الأحزاب: 36).. وتزوجت زينب زيدا طاعة لأمر الله ورسوله.. لكن حياة الزوجين لم تصفُ، وقاسى زيد من صدها ما جعله يشتكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم غير مرة ما يجد من سوء معاملة زينب، فكان الرسول يوصيه بمزيد من الصبر والاحتمال، وفي كل مرة يقول له: “أمسك عليك زوجك”، وأخرج البخاري في صحيحه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: جاء زيد بن حارثة يشكو فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: “اتق الله وأمسك عليك زوجك” ثم ينزل قول الله تعالى: “وَإِذْ تَقُولُ لِلذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى الناسَ وَاللهُ أَحَق أَن تَخْشَاهُ فَلَما قَضَى زَيْدٌ منْهَا وَطَراً زَوجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُن وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً” (الأحزاب: 37) والذي كان يخفيه النبي صلى الله عليه وسلم هو إخبار الله إياه أنها ستصير زوجته والذي كان يحمله على إخفاء ذلك خشية قول الناس: تزوج امرأة ابنه، وأرد الله سبحانه وتعالى إبطال ما كان أهل الجاهلية عليه من أحكام التبني، بأمر لا أبلغ في الإبطال منه، وهو تزوج امرأة الذي يدعى ابنا، ووقع ذلك أمام المسلمين ليكون أدعى لقبولهم، وفارقها زيد. وبعد انقضاء عدتها تزوجها الرسول صلى الله عليه وسلم.


القوامة الصوامة


كانت أم المؤمنين السيدة زينب بنت جحش رضي الله عنها عابدة خاشعة قوامة صوامة قانتة كثيرة التصدق لوجه الله تعالى.. وتقول عنها أم سلمة رضي الله عنها: “كانت زينب لرسول الله صلى الله عليه وسلم معجبة، وكان يستكثر منها، وكانت صالحة قوامة صوامة صناعة وتتصدق بذلك كله على المساكين.. تصنع بيديها وتخرز، ثم تتصدق بثمن ذلك” وقالت عنها السيدة عائشة رضي الله عنها: “ولم أر قط خيرا في الدين من زينب وأتقى لله وأصدق حديثا، وأوصل للرحم، وأعظم صدقة وأشد ابتذالا لنفسها في العمل الذي يتصدق به إلى الله عز وجل”.

وقد أرسل سيدنا عمر بن الخطاب إليها عطاءها اثني عشر ألفا فجعلت تقول: اللهم لا يدركني هذا المال في قابل فإنه فتنة ثم قسمت المال كله في أهل رحمها وأهل الحاجة فبلغ عمر ذلك، فوقف ببابها وأرسل إليها بالسلام وقال: بلغني ما فرقت فأرسل ألف درهم تستبقينها وأرسل الألف فتصدقت بها جميعا ولم تبق منها درهما.

تقول السيدة عائشة رضي الله عنها كما في الصحيحين إن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قلن له: أينا أسرع بك لحوقا؟.. قال: “أطولكن يدا” فكنا إذا اجتمعنا في بيت إحدانا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم نمد أيادينا إلى الجدار تتطاول، فلم نزل نفعل لك حتى توفيت زينب بنت جحش ولم تكن بأطولنا، فعرفنا حينئذ أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أراد طول اليد بالصدقة.

وتوفيت زينب بنت جحش رضي الله عنها سنة عشرين من الهجرة في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه فصلى عليها، وشيعها أهل المدينة إلى البقيع وازدحموا على نعشها.