إن صنع المعروف ومساعدة الآخرين صنعة لا يمكن أن يتصف بها إلا من امتلأ قلبه عطفاً وحباً للآخرين، وهي صفة من صفات المؤمنين الذين {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} كما جاء في كتاب الله الكريم.

إن الذي يؤثر الآخرين على نفسه حتى ولو كان به (خصاصة) يتحلى بصفة من صفات الإيمان فالذي جعله يقدم على مساعدة الآخرين ونجدتهم هي صفة الإيمان، وقديماً عرف العرب صفة اسمها الكرم.. وعرفوا صفات الرجولة وحماية الذمار.. علمتهم الصحراء صفات أقرها الإسلام حين انتشر نوره عبر الصحراء وظلمتها.. ولهم في صنع المعروف طرف ونوادر، ومن أندر ما قرأت من هذه الطرف في كتاب عنوانه: (فضل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب، وقد ألفه العلامة أبو بكر محمد بن خلف المرزبان المتوفى سنة 39هـ)، وهذا الكتاب في ذلك الزمان يفضل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب وذلك لوفاء الكلب، حيث أنه لا ينسى من عمل فيه معروفاً أو جميلاً ومن لم يعمل له ذلك.. ويبدو والله أعلم أنه ألف هذا الكتاب لكي يدل على أنه حتى الحيوانات وهي حيوانات لا تعي ولا تعقل تجازي من عمل لها معروفاً معروفاً مثله أو أحسن منه، بينما بني آدم الذين فضّلهم الله على كثير ممن خلق لا يعرف كثير منهم المعروف بل ينكره وينسى من عمل له معروفاً، من ضمن القصص التي رواها مؤلف كتاب (فضل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب) هذه القصة (خرج رجل من أهل البصرة إلى الجبانة (أي الصحراء) ينتظر ركابه فاتبعه كلب له فطرده وضربه وكره أن يتبعه ورماه بحجر فادماه، فأبى الكلب إلا أن يتبعه أينما صار، فوثب عليه قوم كانت لهم عنده طائلة، وكان معه جار له وأخ فهربا عنه وتركاه، فجرح جراحات كثيرة ورموا به في بئر، وحثوا عليه التراب، حتى واروه ولم يشكوا في موته، والكلب مع هذا ينبح عليهم وهم يرجمونه، فلما انصرفوا أتى الكلب إلى رأس البئر فلم يزل يعوي ويحثوا التراب بمخالبه حتى ظهر رأس صاحبه وفيه نفس يتردد، وقد كان أشرف على التلف ولم يبق فيه إلا حشاشة نفسه ووصل إليه الروح، فبينما هو كذلك إذ مر أناس فأنكروا مكان الكلب ورأوه كأنه يحفر قبراً، فجاؤوا فإذا هم بالرجل على تلك الحال فاستخرجوه حياً وحملوه إلى أهله).

وقال أيضاً:( روي لنا عن شريك قال: كان للأعمش كلب يتبعه في الطريق إذا مشى حتى يرجع فقيل له في ذلك فقال: رأيت صبياناً يضربونه ففرقت بينهم وبينه فعرف ذلك لي فشكره فإذا رأى بصيصاً لي تبعني. ولو عاش - أيدك الله - الأعشى إلى عصرنا ووقتنا هذا حتى يرى أهل زماننا هذا، وسمع خبر أي سماعة المعيطي ونظائره لازداد في كلبه رغبة وله محبة)..انتهى.

إن المعروف والإحسان في هذا الزمان أصبح ضرباً من الخيال بل ومن النوادر فلا يصنع أحد معروفاً إلا لمصلحة شخصية.. إلا من رحم ربك وهم قليلون في هذا الزمان ونادرون كندرة الكبريت الأحمر..

وإيرادي لوفاء الكلاب لا يعني أن بني آدم لا يمكن عمل المعروف معهم.. فإذا كان البشر لا يعرفون المعروف فإن خالق البشر يعرفه والله سبحانه وتعالى هو الذي يكافئ على عمل المعروف إذا كان عملاً صحيحاً وفي محلَّه.. الله سبحانه وتعالى هو الذي يعرف ذلك وهو المطَّلع عليه.. فكما هو معروف فإن صنائع المعروف تقي مصارع السوء.. وللدلالة على ذلك أورد لكم قصة أوردها مؤلف كتاب (الفرج بعد الشدَّة وهو القاضي العلامة أبي علي المحسِّن بن علي بن محمد بن أبي الفهم التنوخي البصري المتوفى سنة 384هـ. قال: عن إبراهيم الخواص قال: حدثني أبوبكر البسطامي - صاحب بن دريد - وكان زوج ابنته. وكان شيخاً من أهل الأدب والحديث، وقد استوطن الأهواز سنين، وكان ملازماً لأبي رحمه الله يتفقده ويبَّره. قال: كان لإمرأة ابن غاب عنها غيبة طويلة منقطعة وأيست منه فجلست يوماً تأكل، فحين كسرت لقمة وأومت بها إلى فيها وقف بالباب سائل مستطعم، فامتنعت من أكل اللقمة، وحملتها مع تمام الرغيف، فتصدَّقت بها، وبقيت جائعة يومها وليلتها، فما أمضت إلا أيام يسيرة بعد ذلك حتى جاء ابنها فخبرها بشدائد عظيمة مرت به وقال: أعظم شيء جرى لي: كنت منذ أيام أسلك أجمة (أي غابة عظيمة) في الموضع الفلاني إذ خرج عليَّ أسد فقبض علي من على ظهر حمار كنت أركبه، وعاد الحمار، وتشبَّكت مخالب الأسد في ثياب كانت عليَّ، فما وصل إلى بدني كثير شيء ليفترسني، فرأيت رجلاً عظيم الخلقة أبيض الوجه والثياب قد جاء حتى قبض بيده من غير سلاح على قفا الأسد.. وشاله وخبط به الأرض وقال: قم يا كلب، لقمة بلقمة، فقام الأسد هارباً يهرول، وثاب إلي عقلي، وطلبت الرجل فلم أجده وجلست ساعات إلى أن ثابت إلي قوتي، ثم نظرت إلى نفسي فلم أجد بها بأساً، فمشيت حتى لحقت بالقافلة التي كنت فيها، فتعجَّبوا لما رأوني فحدَّثتهم حديثي، ولم أدر معنى القول من الرجل: لقمة بلقمة ، فنظرت المرأة، فإذا هو وقت أن أخرجت اللقمة من فيها وتصدقت بها). إنه إمتحان من الله العزيز القدير لهذه المرأة في ذلك الوقت وهو الذي قدّر الأشياء كلَّها.. وقدَّر الأحداث وتزامنها.. فلا تحقرن من المعروف شيئاً حتى ولو بدا في أعيننا شيئاً تافهاً.. وقد قال الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: (إتقوا النار ولو بشق تمرة)..!!.